وفي آخر الأمر ظفروا له بمسألة السفر لزيارة قبور النبيين، وأنَّ السفر وشد الرحال لذلك منهي عنه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا تُشَد الرِّحال إلَّا إلى ثلاثة مساجد». مع اعترافه بأنَّ الزيارة بلا شد رحل قربة، فشنعوا عليه بها، وكتب فيها جماعة بأنه يلزم من منعه شائبة تنقيص للنبوَّة فيكفر بذلك.
وأفتى عدّة بأنه مخطئٌ بذلك خطأ المجتهدين المغفور لهم، ووافقه جماعة وكبرت القضية فأُعيد إلى قاعة بالقلعة فبقي بضعة وعشرين شهرًا، وآل الأمر إلى أن مُنِع من الكتابة والمطالعة، وما تركوا عنده كراسًا ولا دواة، وبقي أشهرًا على ذلك، فأقبل على التلاوة والتهجد والعبادة حتَّى أتاه اليقين، فلم يفجأ الناسَ إلَّا نعيُه وما علموا بمرضه فازدحم الخلق عند باب القلعة وبالجامع زحمة صلاة الجمعة وأرجح، وشيَّعه الخلق من أربعة أبواب البلد، وحمل على الرؤوس، وعاش سبعًا وستين سنة وأشهرًا، وكان أسود الرأْس قليل شيب اللحية ربعة جهوري الصوت أبيض أعْيَن.
قلت: تنقَّص مرة بعض النّاس من ابن تَيْمِيَّة عند القاضي ابن الزَّمْلَكاني وهو بحلب وأنا حاضر فقال: ومن يكون مثل الشَّيخ تقي الدِّين في زهده وصبره وشجاعته وكرمه وعلومه، والله لولا تعرضه للسلف لزاحمهم بالمناكب. وهذه نبذة من ترجمة الشَّيخ مختصرة أكثرها من «الدرة اليتيمية في السيرة التيمية» للإمام الحافظ شمس الدِّين محمد الذَّهَبيّ - رحمه الله -.
قال ابن الوردي: وفيها أي سنة (٧٢٨) ليلة الاثنين العشرين من ذي القعدة توفي شيخ الإسلام ابن تَيْمِيَّة - رضي الله عنه - معتقلًا بقلعة دمشق، وغُسل وكُفن وأُخرج وصلَّى عليه أولًا بالقلعة الشَّيخ محمد بن تمام، ثمَّ بجامع دمشق بعد الظهر، [وأُخرج] من باب الفرج، واشتدّ الزحام في سوق الخيل،