ثم يعلّق على ذلك بقوله: «فهذا من محاسن التجريد. ألا ترى أنه أجرى الخطاب على غيره وهو يريد نفسه، كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة، وعد ما عده من الصفات التائهة (١)؟ وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض».
٢ - وتجريد غير محض: وهو أن تأتي بكلام هو خطاب لنفسك لا لغيرك. ثم يستطرد ابن الأثير فيقول:«ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد لعلاقة أحدهما بالآخر».
والفرق عنده ظاهر بين هذين الضربين من التجريد، فالأول وهو المحض يسمى تجريدا لأن التجريد لائق به، أما الثاني وهو غير المحض فهو نصف تجريد، لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئا، وإنما خاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك. ومن أمثلة التجريد غير المحض عنده قول عمر بن الأطنابة:
أقول لها وقد جشأت وجاشت ... رويدك تحمدي أو تستريحي
ومنه قول شاعر آخر:
أقول للنفس تأساء وتعزية ... إحدى يدي أصابتني ولم ترد
وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطابا لغيرك كالأول، وإنما المتكلم هو المخاطب بعينه، وليس ثم شيء خارج عنه.
...
أما التجريد الذي قصد به التوسع خاصة، وهو ما كان ظاهره
(١) التائهة هنا: صفة مشتقة من التيه بمعنى الصلف والكبر والزهو، وليست مشتقة من «التيه» مصدر تاه يتيه في الأرض بمعنى ضل فيها وتحير.