للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ويرى السكاكي أن من الغلو أصنافا مقبولة، منها ما أدخل عليه ما يقرّبه إلى الصحة نحو لفظة «يكاد» التي تفيد عدم التصريح بوقوع المحال، نحو قوله تعالى: يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ، فإن إضاءة الزيت كإضاءة المصباح من غير أن تمسه النار محال عقلا. ولكن إدخال «يكاد» هنا أفاد أن المحال لم يقع ولكن قرب من الوقوع مبالغة.

ومن الغلو المقبول عنده أيضا ما تضمن نوعا حسنا من التخييل، كقول المتنبي يمدح ابن عمار:

أقبلت تبسم والجياد عوابس ... يخببن بالحلق المضاعف والقنا

عقدت سنابكها عليه عثيرا ... لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا (١)

فالمتنبي في البيت الثاني هنا ادّعى تراكم الغبار الكثيف المرتفع من سنابك الخيل فوق رؤوسها، بحيث صار أيضا يمكن سيرها عليها. وهذا ممتنع عقلا وعادة، لكنه تخيّل حسن.

وقد اجتمع الأمران؛ أي إدخال ما يقرب الغلو إلى الصحة وتضمن التخييل الحسن في قول القاضي الأرّجاني:

يخيّل لي أن سمّر الشهب في الدجى ... وشدّت بأهداب إليهن أجفاني

فالأرجاني يصف الليل هنا بالطول، فيقول: يخيل لي أن الشهب محكمة بالمسامير في الظلام لا تنتقل من مكانها، وأن أجفان عينيّ قد شدت بأهدابها إلى الشهب لطول سهري في ذلك الليل. وهذا تخييل حسن، ولفظ «يخيل» يزيده حسنا.


(١) يخببن: يسرن سير الخبب، وهو ضرب من العدو والجري، والحلق المضاعف: الدروع الكثيرة، والقنا: الرماح، والسنابك: جمع سنبك،
وهو طرف مقدم الحافر، والعثير:
الغبار، والعنق بفتح العين والنون: ضرب من السير السريع.

<<  <   >  >>