وأما تأخيره عن وقت الخطاب ففيه ثلاثة مذاهب: الجواز لنا، والمنع للمعتزلة، والتفصيل لأبي الحسين كما تقدم.
ومنشأ الخلاف بين الفرق أن الجهل مفسدة إجماعاً، فعند المعتزلة أن الله تعالى يستحيل عليه أن يوقع عبده في مفسدة فلا يؤخر البيان عن وقت الخطاب نفياً لهذه المفسدة، وعندنا لله تعالى أن يفعل في ملكه ما يشاء، وأبو الحسين توسط بيننا وبين فرقة المعتزلة فقال: الجهل قسمان بسيط ومركب، فالبسيط أن يجهل ويعلم أنه جاهل، كما إذا سئلنا عن عدد شعر رؤوسنا فإنا نقول نحن نعلم جهلنا به. والمركب: كاعتقاد الكفار والضلال، فإنهم جهلوا الحق في نفس الأمر، وجهلوا أنهم جاهلون، بل يعتقدون أنهم على بصيرة، والمركب أعظم مفسدة م البسيط لتركبه من جهلين، وهو يمكن سلامة البشر منه، أما البسيط فيستحيل خلو الخلق عنه لأن الإحاطة صفة لله وحده.
فيقول أبو الحسين أجوز على الله تعالى إيقاع عباده في الجهل البسيط لخفته دون المركب لفرط قبحه فيما لا ظاهر له، كاللفظ المشترك إذا تأخر فيه البيان إلى وقت الحاجة، إنّما يقع العبد في الجهل البسيط، وهو كونه لا يعلم مراد الله تعالى وذلك لا ضرر فيه لأنه من لوازم العبد، وأما ماله ظاهر كالعموم الذي أريد به الخصوص، فمتى تأخر البيان فيه عن وقت الخطاب اعتقد السامع أنه مراد الله تعالى، مع أنه ليس مراده، وذلك جهل مركب أحيله
على الله تعالى، فيجب تعجيل البيان الإجمالي؛ بأن يقول الله تعالى الظاهر ليس مراد، فيذهب الجهل المركب ويبقى البسيط فقط، فتأخر بيانه التفصيلي إلى وقت الحاجة، فهذا هو منشأ الخلاف بين الفرق.
وأما اتفاقهم معنا على جواز تأخير البيان إلى وقت الحاجة عن وقت الخطاب، فسببه أن النسخ يستحيل أن يقع إلاّ هكذا، فإنه لو تعجل بيانه وقت الخطاب، ويقول الله تعالى: سأنسخ عنكم وقوف والواحد للعشرة بعد سنة، صار هذا الخطاب مُغيًّا بهذه الغاية وينتهي بوصوله إلى غايته، ولا يكون