اللغات اليوم ثابتة بالقياس؛ لأن العرب إنما وضعت أسماء الأجناس للأعيان التي شاهدوها، فإذا هلكت تلك الأعيان وجاءت أعيان أخرى فإنما يطلق عليها الاسم بالقياس، فلفظ الفَرَس وغيره من الحيوانات اليوم إنما يطلق بالقياس وهذا غلطن فإن العرب إنما وضعت لما تصورته بعقولها لا لما شاهدته بأبصارها والمتصور في العقل موجود في الأشخاص الماضية والحاضرة على حد واحد، فمفهوم الفرس المعقول هو الموضوع له، ويصير معنى ذلك أن
الواضع قال كل ما ينطبق عليه هذه الصورة الذهنية هو المسمى بالفرس عندي، وكذلك بقية أسماء الأجناس. ولم يوضع لما في الخارج من المشاهد بالبصر إلا أعلام الأشخاص دون أعلام الأجناس، فهذا ذكره الشيخ أبو إسحق في اللمع، وعلته ما ترى إنما القياس في اللغة مثل كون العرب وضعت السرقة لأخذا لمال على صورة مخصوصة، حتى فرقت بين الغاصب والمحارب والجاحد والخائن والمختلس والسارق، فحينئذ السرقة موضوعة لشيء مخصوص، فهل يسمى النباش للقبور سارقاً لأجل مشابهته للسارق أو يسمى اللائط زانياً لمشابهته للزاني؟ هذا موضع الخلاف.
حجة المنع: أنه لو صح القياس لبطل المجاز خصوصاً المستعار، فإن المشابهة هي علاقته، فحينئذ إن أرادوا بالقياس أنه يصير حقيقة بطل هذا المجاز كله وقد أجمعنا على ثبوته، وإن أرادوا جواز الإطلاق على سبيل المجاز فهو متفق عليه فعلم بأن القول بالقياس لا سبيل إليه، ولأن الأبلق يقال للفرس لاجتماع السواد والبياض فيهن ولا يقال ذلك لغيره من الحيوانات، فلو كان القياس سائغاً لساغ ذلك، لكن أهل اللغة منعوه، وكذلك القارورة تقال للزجاجة لأجل ما يستقر فيها، ولا يقال ذلك للنهر ولا لغيره وإن استقرت فيه المائعات.
حجة الجواز: أن الفاعل يرفع في زماننا والمفعول ينصب وغير ذلك من المعمولات وذلك في أسماء لم يسمعها العرب من الأعلام وغيرها، فلا يمكن أن يقال ذلك بالوضع لأن العرب لم تسمع هذه الأسماء، والوضع، فرع التصور، فيتعين أن يكون القياس.
والجواب: أن ذلك بالوضع، والعرب لما وضعت الفاعل ورفعته لم تضعه لشيء بعينه بل للحقيقة الكلية، وتلك الحقيقة الكلية هو كونه مسند إليه للفعل وما في معنى الفعل من اسم الفاعل ونحوه، وذلك موجود في جميع هذه الصور، فلا جرم صح الإطلاق، وكان عربياً حقيقة لا مجازاً ولا قياساً.