معنى قولي الأولان عقليان إجماعاً: أنا وافقنا المعتزلة على أن الحسن والقبح بهذين التفسيرين يستقل العقل بإدراكهما من غير ورود الشرائع، فيدرك العقل أن الإحسان ملائم والإساءة منافرة، وأن العلم كمال والجهل نقص.
أما كون الفعل يثيب الله عليه أو يعاقب، فهذا لا يعلم إلا بالشرع عندنا وبالعقل عندهم، فمن أنقذ غريقاً ففي فعله أمران: أحدهما كون الطباع السليمة تنشرح له وهذا عقلي، وثانيهما أن الله تعالى يثيبه على ذلك وهذا محل النزاع وكذلك من غرَّق إنساناً ظلماً فيه أمران أحدهما كونه يتألم منه الطبع السليم وهذا عقلي، وثانيهما كونه يعاقبه الله تعالى عليه وهذا محل النزاع، فهذا تلخيص محل النزاع.
وكذلك يدرك العقل أن العلم كمال وأن الجهل نقص وإن لم يبعث الله الرسل، كما يدرك أن خمسة في خمسة بخمسة وعشرين، وجميع الأحكام العقلية من الحسابيات والهندسيات، وكذلك الأمور العادية كالطيبات وغيرها لا يتوقف دركها على الشرائع، وكذلك الأمور الإلهية فيما يجب لله تعالى ويستحيل عليه أو يجوز في أفعاله يكفي فيها العقل، وأما وقوع أحد طرفي الجائز على الله تعالى فلا يستقل العقل به، ولا يتوقف كله على الشرائع، بل قد يكفي فيه الحواس الخمس أو إحداها، كما ندرك أن الله تعالى خلق الرائحة في المسك واللون في الثلج والصوت في الجنين والخشونة فيا لقنفذ، أو بقرائن الأحوال كخجَل الخجِل ووجَل الوجِل وغير ذلك.
وأما الثواب والعقاب العاجل في الدنيا أو الآجل في الآخرة أو أ؛ وال القيامة أو الأحكام الشرعية فإن هذا ونحوه لا يعلم عندنا إلا بالرسائل الربانية، وعندهم تدرك الأحكام والثواب والعقاب وكثير من أحوال القيامة بالعقل: فإنهم يوجبون بالعقل خلود الكافر وصاحب الكبيرة في النار، وخلود المؤمن ووجوب دخوله الجنة، وغير ذلك مما هو عندهم من باب العدل وفروع الحسن والقبح، ونحن عندنا هذه الأمور كلها يجوز على الله تركها وفعلها، ولا نعلم وقوعها وعدم