وكل نقمة منه عدل، والخلائق دائرون بين فضله وعدله؛ فعندنا لا يثبت حكم قبل الشرع، ولا يجب شكر المنعم إلا بالشرع، وعندهم ذلك كله عقلي بالتفسير الذي تقدم من إدراك العقل لا من حكمه، والحاكم هو الله تعالى في الجميع.
ولما كانت هذه قاعدتهم قالوا في الكذب الضار أن قبحه مدرك بالضرورة، إذ كونه كذباً جهة قبح، وكونه ضرراً جهة قبح، والصدق النافع حسن بالضرورة، لأن كونه صدقاً جهة حسن، وكونه نفعاً جهة حسن، فلا مدخل للنظر هنا، بل الصدق الضار مجال النظر لاحتمال أن يرجح مصلحة الصدق على مفسدة الضرر فيقضي بالحسن، أو بالعكس فيقضي بالقبح، أو يستويان فيجب التوقف، وكذلك الكذب النافع ينقسم إلى الأقسام الثلاثة، فالكذب من العظيم أقبح منه من الحقير، وفيا لشيء الحقير أقبح منه في حفظ المال الخطير أو النفس المؤمنة الزكية، فلا بد من النظر في كل صورة حتى يقضي بحسنها أو بقبحها، أو
يتوقف فيها، وقد يتعذر النظر كآخر يوم من رمضان لا يقدر العقل أن يدرك فرقاً بينه وبين أول يوم من شوال، بل الشرائع عندهم إذا وردت عرفتهم أنه كان فيه مصلحة، وفي أول يوم من شوال مفسدة، وأما عندنا فلا ضرورة ولا نظر، ولا الشرع كاشف بل منشئ في الجميع، وعندهم الشرائع إما مؤكدة فيما تقدم علمه، أو كاشفة فيما لم يتقدم علمه.
لنا أن العالم حادث؛ فهو إما أن يكون فيه مصالح أو لا يكون، فإن كان الأول فقد أخر الله تعالى فعل المصالح دهوراً لا نهاية لها، فلا يقال أن الله تعالى لا يهمل المصالح، وحينئذ لا يجزم العقل بثبوت الأحكام قبل الشرائع ولا بمراعاة المصالح، وإن كان العالم ليس فيه مصالح، وقد فعل الله تعالى مالا مصلحة فيه، فلا يكون العقل جازماً بأن الله تعالى لا يفعل إلا ما فيه مصلحة، بل يجوز عليه فعل لا حكمة فيه على رأيهم، وذلك يخرم قاعدة الحكمة بتفسيرهم، فهذا برهان قاطع على بطلان الحسن والقبح العقليين، ولم أره مسطوراً، وقد نقلت في شرح المحصول طرقاً عديدة عن الأصحاب، وبينت ما عليها من الإشكال وأخرت هذه الطريقة.