الأولى أن أهل مكة كانوا على وعى كامل بقدرات الانسان لكنهم نسوا خلق الانسان (بفتح الخاء) ، وكانت النظرة البدوية على وعى كبير أيضا بقوة الانسان، لكنها نظرة خفف من غلوائها اعتقادهم فى القضاء والقدر، واذا تناولنا التراث الاسلامى باعتباره دالا بعض الشىء على النظرة الجاهلية «٢٢»(النظرات التى كان سائدة قبل ظهوره- أى الاسلام) ، فهناك أربعة أمور خارج سيطرة الانسان: الرزق، وساعة الوفاة، والسعادة والشقاء (فى الحياة الدنيا) ، وجنس المولود (ذكر أم أنثى) ، وخارج هذا فللانسان أن يفعل ما يشاء، ان فى استطاعته أن يمارس كل ما تنطوى عليه كلمة (المروة) خارج هذه الأمور الأربعة التى لا يد له فيها وسواء تصرف وفقا لما تقتضيه مبادئ المروة أم لا، فان هذا يتوقف عليه هو (على الشخص نفسه) ، وعلى ميراثه (من أجداده) ، وان كان هذا العنصر الأخير غير محدد بما فيه الكفاية كما أنه مرتبط بما لا دخل للانسان فيه. وعلى أية حال، فهذه الحدود للقدرة البشرية التى اعترف بها البدو لم تكن واضحة تماما فى مكة، فالقوة المالية يمكنها أن تعوض كثيرا مما يترتب على نقص المطر، والمجاعة يمكن معالجة نتائجها بالاستيراد. ومرة أخرى، فقد كان من اليسير طوال جيل أو جيلين اعتبار امتلاك ثروة كبيرة أمرا مرتبطا بالسعادة، بل قد تبدو الثروة قادرة على مد أجل الانسان، وهكذا كانت هناك مبالغة فى تقدير قدرة الانسان وسلطانه وطغيانها على الحياة العقلية فى مكة.
والنقطة الثانية المهمة لا تبعد عن النقطة الأولى التى ذكرناها لتونا بل انها شديدة الارتباط بها، فحقيقة أن زعماء مكة- الذين كان فى حوزتهم أكبر قدر من السلطة السياسية- لم يكونوا أمثلة بارزة للمروة، ولا بد أن هذا قد أثار شكوكا عقلية لدى المفكرين فى ذلك العصر- شكوكا حول جوهر المروة كقيمة، وربما أيضا أثار شكوكا حول أثر الوراثة فى انتقال المروة أو على الأقل القدرة على تحمل قدر كبير منها. ومثل هذه الأفكار تقوض الأساس النظرى للتضامن القبلى وتشجع التطور نحو الفردية.