لم يكن فى مجتمع مكة قبل الاسلام، ولا حتى بعد ظهوره (الى ما قبل فتح الرسول صلّى الله عليه وسلم لها) مؤسسة حكومية أو دولة أو كيان سياسى حاكم، سوى اجتماع رؤساء العشائر وحلفائهم فيما يعرف بالملأ، ولم تكن قراراته ملزمة الا اذا تم اتخاذها بالاجماع، ومع هذا فقد كان الامن بمعناه الشكلى أو الظاهرى مستتبا الى حد كبير، لا قتل، لا سرقة..
الخ وحتى بعد اعلان الرسول لدعوته بكل ما تنطوى عليه، فان أحدا لم يقتله، بل لم يحاول قتله، اللهم الا محاولة لم تتم فى أواخر المرحلة المكية، ويرى المؤلف أن المسلمين لم يتعرضوا لاضطهاد شديد كذلك الذى نسمع عنه فى مجتمعات أخرى مارسته ضد المختلفين معها فى العقائد، ويرجع هذا الى التكوين العشائرى، والى شبكة التحالفات الحديدية، التى تجعل الشكل الخارجى يوحى بالأمن المستتب، رغم ما ينطوى عليه هذا الشكل (الأمن المستتب) من ظلم وعدوان بل واجرام من نوع خاص،.. انه مجتمع المكائد والمقالب والتامر، حيث يتحالف المتامرون على تاجر فيفلسونه فكأنما قتلوه، أو يضعون من شأن شخص فلا يزوجونه، أو يهينونه فكأنما قتلوه..، لذا فقد بدت دعوة محمد صلّى الله عليه وسلم وكأنها دعوة ضد أمن مكة واستقرارها، لأنها كانت دعوة تتغاضى عن الظواهر لتصل الى الجذور، كانت دعوة راديكالية بمعنى من المعانى، فاختل التوازن العشائرى، بل واختل النظام داخل العشيرة الواحدة، فأسلم الابن دون أبيه، وأسلم الأخ دون أخيه،.. الخ، وبذلك انفرط العقد،..
فكان لا بد من احلال نظام جديد يسد هذا الفراغ، فظهرت فكرة الأمة، وتحول الانتماء الى الجماعة الاسلامية، التى عوضت الداخلين الجدد عن الانتماء العشائرى، وأصبح هناك التزام بشريعة، وضبط سلوكى خوفا من الله وطمعا فى ثوابه.. وبعد ذلك فى المجتمع المدنى كان للدولة عمد ونظام، وأصبحت الدولة- ممثلة فى الرسول وجماعة المسلمين- مسئولة عن الفرد، تعينه على طلب الرزق، وتحل مشاكله الاجتماعية، وتسأل عنه ان غاب.. ومن هنا كانت صلاة الجماعة تفوق صلاة الفرد لسبب اجتماعى وسياسى واضح، وهو أن يتفقد المصلون من غاب منهم، فكانت مؤسسة المسجد بمثابة حكم محلى يبلغ الحكومة المركزية..