ولكن النظام العشائرى لم يكن هو التشكيل الوحيد الذى حفظ الأمن فى مكة (الأمن بمعناه الشكلى أو الظاهرى) ، فقد كانت هناك أيضا شبكة التحالفات المالية الصارمة التى اخترقت حتى روابط الدم (العشائرية) وتغلبت عليها، لقد قدم لنا (وات) جداول بعضها مفصل بالتحالفات المالية، وخلص- عن حق- بأنها فاقت أحيانا التحالفات العشائرية، ولعل أبا لهب عم الرسول صلّى الله عليه وسلم أوضح مثال على ذلك، فما كان ليؤذى ابن أخيه هذا الايذاء الا لتحالف مالى، ومصاهرة مع عشيرة قوية مناوئة، ونترك جداول وات تتكلم فليس من واجبنا نقلها فى هذه المقدمة مرة أخرى. وفى ظل التحالفات المالية الكبيرة يتعمق الأمن بمفهومه الشكلى، فمن الذى يرفع رأسه أمام هذا الغول القادر على قطع مصدر رزقه، والقادر- بماله- على عزله واهانته والتقليل من شأنه. والمال يساعد على شراء الرجال وحبك المؤامرات.. الخ. ورغم أن (وات) ليس شيوعيا كما ألمح هو فى كتابه، الا أنه يستطرد قائلا انه فى ظل هذه التحالفات المالية ينتفى (الشرف) بمعناه العربى الأصيل، ويضيع معنى (العيب) ولم يكن يهم هؤلاء الأثرياء المكيون كثيرا أن يوصفوا بأنه لا شرف لديهم، فقد كانوا قادرين- عند الضرورة- على شراء الصمت أو المديح، وتحولت قيم الكرم العربية الحقيقية على أيديهم الى مجرد تظاهر. يقول وات اعتمادا على روايات عن أبى جهل، انه لم يكن يضرب الا المسلمين الضعفاء الكائنة أوضاعهم خارج النظام العشائرى، وبذلك- فيما يقول وات- تصرف بما لا تقتضيه قواعد (المروءة) أو (المروة) العربية، واعتبر وات هذا أمرا طبيعيا، لأن التحالفات المالية لا تهتم بالضعيف ولا تسعى الا الى القوى.. انه مجتمع الجبناء الذى يحتاج الى رقابة من مؤسسات أخرى، تأخذ منه (الحق) المعلوم، للسائل والمحروم، ومؤسسات أخرى تراقب (الكيد) الذى يدبره، وهو تعبير لا يخرج عن كونه فى هذا السياق، المضاربة ضد مصالح المجموع،.. لذلك تعرض وات كثيرا فى دراسته هذه الى أن الاسلام فى جانب منه كان دينا يدعو لمصالح المجموع، ويدافع عن (المستضعفين) وأفرد لمفهوم المستضعفين هؤلاء صفحات طوالا.