وات ببعض ما قاله المستشرق لا مانس من أن بدو الصحراء كانوا ينظرون لأموال شيخ القبيلة باعتبارها عزا لهم، وأنهم يعتبرونه مستودعا للأموال امينا عليها depositaire وأن محمدا صلّى الله عليه وسلم قد أعاد شيئا من هذا المفهوم. كما أعاد فضيلة الكرم الى معناها الأصلى بعد تفريغها من الزيف والتفاخر.
وما كان التحالف المالى والعشائرى ليترك محمدا صلّى الله عليه وسلم ومن آمنوا برسالته، وهذا يوضح قضية فى الغاية من الأهمية وهو أن عدد المؤمنين برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم طوال الحقبة الملكية كان قليلا، وهنا يضيف (وات) بعدا جديدا للهجرة الى الحبشة، وهى خوف محمد صلّى الله عليه وسلم على أصحابه من الردة، ففى وسط هذه الشبكة المالية العشائرية المعقدة تظهر الأنياب (الزرق) والذبح بفتائل الحرير، والتامر والمكائد والاغراء بالمال..
وكانت قريش بارعة فى ذلك كله، اذ كانت تحارب غالبا بغير أفرادها، وتحرض وهى بعيدة، تماما كما يفعل التاجر الثرى الذى- فى الغالب الأعم- لا يرتكب جريمة بنفسه، ولا يمارس فعلا مخالفا للقانون، الا من وراء ستار وبأيدى الاخرين، لكنه قابع دائما وراء الستار. فى هذا الجو خشى محمد صلّى الله عليه وسلم- وفقا لتحليلات وات- من ردة هذه القلة القليلة التى اتبعته فى المرحلة المكية، فكانت هذه احدى أسباب دعوته لبعض أصحابه للهجرة الى الحبشة، بالاضافة لدوافع أخرى. انها أفكار وات قد نأخذ بها أو لا نأخذ؛ لكنها جديرة بالتأمل.
«كل التاريخ تاريخ حديث»
عند قراءتى لكتب (وات) ، أتذكر على الفور قول الباحث الايطالى الشهير بنديتو كروتشه - (١٩٥٢ -١٨٦٦) Croce الذى كتب عدة مباحث فى فلسفة التاريخ- «كل التاريخ تاريخ حديث» وهو يعنى أن عزل الظاهرة التاريخية فى زمانها، يقطع الطريق على فهمها، ولعل طريقة تناول وات لبعض الظواهر الاجتماعية عند تاريخه لأحوال مكة