وحياة محمد صلّى الله عليه وسلم- وهو ما سنتناول جانبا منها فى هذه الفقرة- تؤكد ذلك. فعلى سبيل المثال: أتظل قيم الانسان ومفاهيمه كما هى بعد تغير أوضاعه المادية، أم أن هذه الأوضاع المادية أو الاجتماعية الجديدة تنسف كل ما مضى فى لمحة واحدة؟ بمعنى هل احتفظ أهل مكة- وهم بدو فى الأساس- لكنهم استقروا بعد ذلك، بقيمهم الأولى أم حوروها أو تحورت معهم؟ اننا نفهم من الفصل السادس أنهم ظلوا محتفظين بمبدأ صحراوى- كان غير مضر كثيرا فى الصحراء- وهو:«احتفظ بما يستطيع سلاحك الاحتفاظ به» . كان هذا مقبولا فى الصحراء الواسعة، وكان وضع اليد على مناطق المراعى يضمن لمن يفعل ذلك طعاما لقطعانه، وكان هذا أمرا مطلوبا الى حد ما.. لكنه عندما يطبق فى مجتمع مستقر تضيع أراضى الدولة، ويصبح الأمن مجرد قشرة تنطوى على الحقد والضغائن، بل وتصبح الاضطرابات والمناوشات أفضل من مثل هذا الأمن. وقيمة الكرم فى الصحراء ليست فضيلة فحسب وانما هى أمر ضرورى لاستمرار الحياة، وقد مسخ أهل مكة هذه القيامة فأصبحت مجرد مظاهر، والتماسك الأسرى أو القبلى مطلوب فى الصحراء، لكن المصالح المالية طغت عليه فى مكة، فأصبح مجرد شكل خال من المضمون، فأنا لا أنفعل دفاعا عن قريبى أو ابن قبيلتى الا ازاء القبائل الاخرى، أما بينى وبينه فاننى أسومه سوء العذاب.. الخ.
فعندما يستقر البدو لا يتحولون الى حضر ببساطة وبمجرد استقرارهم، وعندما يهاجر الفلاح الى المدينة لا يصبح مدنيا هكذا بمجرد انتقاله، وعندما يتحرر العبد أو المملوك، لا يصبح حرا- هكذا وببساطة- بمجرد عتقه. قضايا على هذه الشاكلة يسوقها وات فى مباحثه.
لكن، أمعنى هذا أن كل المفردات التاريخية التى أوردها وات صحيحة؟ هذا ما لا يمكن الجزم به، وهناك معلومات نميل الى أنها غير صحيحة، وقد علق الأخ حسين على بعض ما أورده وات فى المقدمة وفى الفصل الأول، وأقررته على غالبها، وقمت أنا بالتعليق على بقية فصول