وعلى أية حال، فالمسألة لم تكن بسيطة، انها ليست مجرد احياء للمثل البدوية القديمة وانما كانت انتاجا لمثل عليا أخلاقية جديدة تتناسب وحاجات الحياة المستقرة. فكان انقاذ ما يمكن انقاذه جزا من المهمة لكنه أصغر أجزائها. فكثير مما هو جديد سيكون مطلوبا أيضا، وقد تناول القران الكريم هذا الجزء الأكبر فى بواكير ما نزل منه بتمهيد الطريق لايجاد قيم أخلاقية جديدة، أعنى أوامر الله ورسوله التى عن طريقها ستصل هذه القيم الجديدة. وقد وجه القران الكريم أوامره فى شكل مبادئ أو قيم عامة، دون التعرض للتفاصيل: وكون هذه القيم الجديدة التى يبثها القران الكريم ما هى الا أوامر من الله سبحانه، فان ذلك يشكل وازعا جديدا للالتزام بها، هذا الوازع الذى ارتبط بالحساب فى اليوم الاخر، لقد حل هذا الوازع فى بعض الحالات محل أى وازع قديم.
وصعوبة هذه المهمة الجديدة تتضح بالنظر الى القدر فى مفهوم (التزكى) . فالمعنى الأصلى للتزكى- فيما يبدو- قريب من معنى الصلاح والتقوى، وربما انطبق معنى الكلمة على الانسان الذى يؤمن بالمبدأ الذى مؤداه أن قدر الانسان النهائى أو مصيره النهائى معتمد على القيم الأخلاقية التى يطبقها فى حياته. وعلى أية حال، فان هذا المفهوم لم يكن مفهوما عربيا محليا، وبدأ بالتدريج يختفى من القران الكريم (المقصود أنه ورد فى أوائل ما نزل من القران ولم ينزل فى أواخر ما نزل منه) وحلت محله فكرة اسلام الوجه لله أو التسليم بقضاء الله وقدره.
وحتى اذا كان هناك تركيز شديد على الجانب الأخلاقى للتزكى بالقول ان هذه الكلمة تعنى الصلاح والتقوى، فان اهمالها (عدم نزولها بعد ذلك) يعد مثالا على الصعوبة الكامنة فى ايجاد مفاهيم جديدة يمكن أن تتجذر بنجاح وتلتحم بعمق فى القيم المحلية (العربية) عميقة الجذور.
[(ج) الجانب العقلى]
الجوانب العقلية للمسائل التى واجهت العرب أيام محمد صلّى الله عليه وسلم أقل أهمية، لكن لا ينبغى اهمالها تماما، فهناك نقطتان مهمتان يجب وضعهما فى الاعتبار.