للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

هكذا كان يشعر أبو هريرة أنَّ من واجبه أنْ يُفَقِّهَ الناس، ويعلمهم ما سمعه من الصادق المصدوق، ويرى هذا لزاماً عليه، لذلك لم يتوان في هذا المضمار ولم يقصر فيه، بل كان في طليعة المعلمين، سعى لنشر العلم، وأفتى الناس أكثر من عشرين سَنَةً، وكان طلاب العلم وأصحاب المسائل لا ينقطعون عنه، لعلمه الجم، وحفظه الجَيِّدِ، فقد كان من أعلم الصحابة بسُنَّة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ويظهر لنا ذلك فيما حدث له مع عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -: أَخَذَتِ النَّاسَ رِيحٌ بِطَرِيقِ مَكَّةَ، وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ حَاجٌّ، فَاشْتَدَّتْ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ عُمَرُ لِمَنْ حَوْلَهُ: مَنْ يُحَدِّثُنَا عَنِ الرِّيحِ؟ فَلَمْ يُرْجِعُوا إِلَيْهِ شَيْئًا، فَبَلَغَنِي الَّذِي سَأَلَ عَنْهُ عُمَرُ مِنْ ذَلِكَ، فَاسْتَحْثَثْتُ رَاحِلَتِي حَتَّى أَدْرَكْتُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أُخْبِرْتُ أَنَّكَ سَأَلْتَ عَنِ الرِّيحِ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «الرِّيحُ مِنْ رَوْحِ اللهِ، تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا، فَلاَ تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللهَ خَيْرَهَا، وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا» (١).

ومن هذا ما رواه الوليد بن عبد الرحمن أنَّ أبا هريرة حَدَّثَ عن النبي - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «مَنْ صَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ فَلَهُ قِيرَاطٌ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا وَتَبِعَهَا فَلَهُ قِيرَاطَانِ» فقال عبد الله بن عمر: «انْظُرْ مَا تُحَدِّثُ، فَإِنَّكَ تُكْثِرُ مِنَ الحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -»، فأخذ بيده، فذهب به إلى عائشة فسألها عن ذلك، فقالت: «صَدَقَ أَبُو هَرَيْرَةُ!!» ثم قال: «يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَاللَّهِ مَا كَانَ يَشْغَلُنِي عَنْ رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ، إِنَّمَا كَانَ يَهُمُّنِي كَلِمَةٌ من رَسُولِ اللهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنِيهَا، أَوْ لُقْمَةٌ يُطْعِمُنِيهَا» (٢). وفي رواية: «إِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَشْغَلُنِي


(١) " مسند الإمام أحمد ": ص ٥٢، جـ ١٤ رقم ٧٦١٩ بإسناد صحيح ونحوه في " الأدب المفرد ": ص ٣١٢ وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه، وهذا الحديث دليل قاطع على قناعة عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بحفظ أبي هريرة بالرغم من كثرة حديثه. وسأتعرض لهذا في الباب الثاني من البحث.
(٢) " طبقات ابن سعد ": ٤: ٢/ ٥٧ وروى نحوه بإسناد صحيح الإمام أحمد في " مسنده ": ص ١٧٥، جـ ١٢ رقم ٧١٨٨.

<<  <   >  >>