للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

عَنِ الرَّجُلِ يُتَّهَمُ بِالْكَذِبِ، فَقَالُوا: انْشُرْهُ فَإِنَّهُ دِينٌ» (١). وقال يحيى بن سعيد: سَأَلْتُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، وَشُعْبَةَ، وَمَالِكًا، وَابْنَ عُيَيْنَةَ، عَنِ الرَّجُلِ لاَ يَكُونُ ثَبْتًا فِي الْحَدِيثِ، فَيَأْتِينِي الرَّجُلُ، فَيَسْأَلُنِي عَنْهُ، قَالُوا: «أَخْبِرْ عَنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِثَبْتٍ» (٢).

وكان النقاد يُدَقِّقُون في حكمهم على الرجال، يعرفون لكل محدث ما له وما عليه، قال الشعبي: «وَاللهِ لَوْ أَصَبْتُ تِسْعاً وَتِسْعِينَ مَرَّةٍ وَأَخْطَأْتُ مَرَّةً لَعَدُّوا عَلَيَّ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ» (٣).

وكانت المظاهر لا تغريهم، وكل ما يهمُّهُم أنْ يخلصوا العمل لله، ويصلوا إلى الحق الذي ترتاح عنده ضمائرهم، لخدمة الشريعة، ودفع ما يشوبها، وبيان الحق من الباطل، قال يحيى بن معين: «إِنَّا لَنَطْعَنُ عَلَى أَقْوَامٍ لَعَلَّهُمْ قَدْ حَطُّوا رِحَالَهُمْ فِي الْجَنَّةِ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ سَنَةٍ» (٤). قال السخاوي: «أَيْ أُنَاسٌ صَالِحُوْنَ، وَلَكِنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الحَدِيثِ» (٥).

هكذا بَيَّنَ جهابذة علم الحديث - منذ صدر الإسلام إلى عهد التدوين والتصنيف - أحوال الرُواة: المقبول منهم والمتروك، وأُلِّفَتْ مُصنَّفاتٌ ضخمة في الرُواة وأقوال النُقَّادِ فيهم، حتى إنه لم يعد يختلط الكذَّابون والضعفاء بالعدول الثقات، كما ألِّفت مُصنَّفات ومعاجم خاصة بالضعفاء والمتروكين، وأصبح من السهل جداً على أصحاب الحديث أنْ يُمَيِّّزُوا الخبيث من الطيِّب في كل عصر، وقد بنى النُقَّادُ حكمهم في الرُواة على قواعد دقيقة، فقدَّمُوا للحضارة الإنسانية أعظم إنتاج في هذا المضمار، يفخر به المسلمون أبد الدهر، وتعتزُّ به الأمَّة الإسلامية التي شهد لها كبار العلماء بأياديها البيضاء في خدمة السُنَّة الشريفة، قال المستشرق الألماني «شبرنجر»


(١) مقدمة " التمهيد ": ص ١٢: ب.
(٢) " صحيح مسلم بشرح النووي ": ص ٩٢، جـ ١.
(٣) " تذكرة الحُفاظ ": ص ٧٧، جـ ١.
(٤) " الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع ": ص ١٦٠: أ.
(٥) " الإعلان بالتوبيخ لمن ذمَّ التاريخ: ص ٥٢.

<<  <   >  >>