للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ارتفاع شأن المنادى وأنه منزَّهٌ عن مداناة العباد؛ إذ هو في دُنُوِّه عالٍ، وفي عُلُوِّه دانٍ، سبحانه!

والثاني: أن نداء العبد للرب نداءُ رغبة وطلبٍ لما يُصلِح شأنَه، فأُتي في النداء القرآني بلفظ "الرَّب" في عامَّة الأمر؛ تنبيهًا وتعليمًا لأن يأتي العبدُ في دعائه بالاسم المُقتضي للحال المدعوِّ بها، وذلك أن "الرَّب" في اللغة هو القائم بما يُصلِح المربوب، فقال تعالى في مَعرِض بيان دعاء العباد: ﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [البقرة: ٢٨٦] إلى آخرها، ﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا﴾ [آل عمران: ٨].

وإنما أتى قولُه تعالى: ﴿وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ﴾ [الأنفال: ٣٢] من غير إتيان بلفظ "الرَّب"؛ لأنه لا مناسبة بينه وبين ما دَعَوا به، بل هو مما يُنافيه، بخلاف الحكاية عن عيسى في قوله: ﴿قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ﴾ [المائدة: ١١٤] الآية؛ فإن لفظ "الرَّب" فيها مناسبٌ جدًّا.

والثالث: أنه أتى فيه الكنايةُ في الأمور التي يستحيا من التصريح بها، كما كنَّى عن الجماع باللباس والمباشرة، وعن قضاء الحاجة بالمجيء من الغائط، وكما قال في نحوه: ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾ [المائدة: ٧٥]، فاستقرَّ ذلك أدبًا لنا استنبطناه من هذه المواضع، وإنما دلالتُها على هذه المعاني بحُكم التبع لا بالأصل.

والرابع: أنه أتى فيه بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه، كقوله تعالى:

<<  <   >  >>