ومن الذين كانت لهم قَدَمٌ راسخة في الشريعة، وكان أحد الأسباب في رسوخه هذا وأهمُّها هو تحقُّقه بالعربية وأخذُه بناصية علومها - الإمام النَّظَّار الشهير أبو إسحاق الشاطبي، ومن طالع كتبه وتأمَّلها حقَّ التأمُّل يجِد أن أحد أركان مشروعه الذي انشغل ببيانه وتقريره في هذه الكتب - هو عِلم العربية؛ فهو عنده المدخل إلى الشريعة، وهو العِلم أكيد الاشتراط في رتبة الاجتهاد؛ فلا يكفي فيها اليسير منه في حقِّ مَن أراد تحصيل هذه الرتبة، بل لا بُدَّ له من تحصيله على كماله حتى يكون من أهله، وهو العِلم الذي بسبب إهماله رفَعت البِدَعُ رءوسها، واتسع الخرق في الأزمنة الأخيرة على الراقع؛ فكثُرت الدعاوي على الشريعة.
وقد كنتُ في أثناء إعداد رسالة الماجستير الموسومة "أصول العربية بين متقدِّمي النحاة ومتأخِّريهم؛ دراسة في فكر أبي إسحاق الشاطبي" أتنبَّه إلى هذا المأخذ عنده، وكثرة كلامه ونصوصه فيه، فكنتُ أجمع تلك النصوص في قُصاصات، ثم انشغلتُ عن ذلك بالعمل في الدكتوراة وبعض الأعمال العلمية.
ثم بعد أن انتهيتُ مما كنتُ مشغولًا به عُدتُ إلى النظر في هذه القصاصات، فوجدتُها مادة نافعة ثريَّة، فيها من التحقيق والتحرير ما فيها كما هي عادة الشاطبي فيما يكتب، فرأيتُ أنها تستحقُّ أن تُفرَد بالتصنيف؛ فاستشرتُ في هذا بعض النُّبهاء من الأصدقاء والزملاء؛ فأجابوني بالموافقة وبأنها فكرة موفَّقة؛ فاستعنتُ بالله تعالى وجردتُ مصادر هذه المادة مرة أخرى؛ خوفًا من أن يكون قد فاتني شيء منها لم أنتبه إليه في جردي لها في المرة الأولى.