بسيوفكم، وامحوا أثره " قال: فنزلوا عليه بالسيوف وضربوه ضربات شديدة، وكانت عدة تلك الضربات (١١٤) أربع عشرة ومائة ضربة، إلا أنها غير قاتلة، لما يريد الله من لطفه الخفي في حياته ونجاته، فلما رأى "البترك" هذه الفعال سكن غضبه وقال: "اقطعوا لسانه" فلما أن رأى "يوقنا" ذلك الأمر وتحقق هذا الكلام منهم قال في نفسه: "والله لا أترك هذا اللعين يتمكن من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " (١)، وتقدم إلى الملك قبل الأرض، ودعا بدوام الملك والنعم وقال: "أيها الملك إن هذا ليس بصواب، وإن من الراي السديد عندي أن تترك هذا الغلام حتى يصح، فإذا عاد إلى صحته أخرجناه إلى باب المدينة، وصلبناه ليشفي صدور الروم؛ إنه قد أثر فيهم كلامه الذي تكلمه، وقد قتل من آبائهم وأبنائهم وإخوانهم، وأيضا يبلغ الخبر إلى المسلمين بإهانته وضربه فيوهنوا بذلك".
قال الواقدي رحمه الله: إنما أراد "يوقنا" بذلك أن يخلص ضرارا منه، وقال في نفسه: إذا بات تلك الليلة انكسر الغضب من الملك فيطلقه، فقال الملك ليوقنا: "خذه واحفظه إلى غد" فأخذه "يوقنا" إلى داره، وافتقد جراحاته فإذا بها كلها سليمة، ما قطع له عصب ولا عرق، وذلك من لطف الله الخفي، ولما أن رأى "يوقنا" جراحاته خاطها وداوها، وأطعمه وسقاه، ففتح عينه فرأى "يوقنا" وولده، ولم يكن عنده علم بأن "يوقنا" قد أتى إلى هذا المحل ليحتال على الملك، فلما أن رآهما قال لهما: إن كنتما كافرين فقد سخركما الله لي حتى داويتماني، وإن كنتما مؤمنين فمرحبا بكما، وهنيئا لكما، ولعل الله ببركتكما يجمع شملي بعجوز في الحجاز، قد أعلها البكاء والعويل ليلا ونهارا، من أجلي وأجل أختي خولة وهي في العسكر، ولقد كانت تحسب هذا الحساب؛ إنني بقية من مضى من الأحباب، ولقد خفي عليها خبري وأمري، فإن قدرتما أن تبلغاها سلامي وتعلماها مقامي، وكيف كان للكافرين كلامي، فهي ترسل وتعلم أمي وتكاتبها بأمري، فلما استراح في الليل قال: بالله عليكما اكتبا علي ما أقول لكما، فكتب عنه ابن "يوقنا" وهو يملي له، ويكتب حرفا بحرف شعرا:
(١) هنا ملاحظة: هل كان "يوقنا" مسلما سرا، قد يكون، أو كان ذلك منه مجرد عاطفة قد يكون، إن صبرهما على ما قال عن الكافرين، ومداواتهما له وكتابة ما أملا من شعر يرجح أنهما مسلمين في الخفاء، وضرار صحابي معروف - رضي الله عنه -.