وفي صحيح البخاري أيضًا عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: من حدثك أن محمدًا - صلى الله عليه وآله وسلم - رأى ربه فقد كذب وهو يقول:{لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ}(الأنعام: ١٠٣) ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب وهو يقول: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}(النمل: ٦٥)
فهذه الآيات والأحاديث ومثلها كثير جدًا قاطع بأنه لا يعلم أحد في السماوات والأرض الغيب إلا الله لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، وأنه لا يعلم أحد من هؤلاء الغيب إلا ما أطلعه الله سبحانه عليه، فهاهم الملائكة يخلق الله آدم ولا يعلمون الحكمة من خلقه، ويعرض الله عليهم مسميات معينة ويقول لهم {أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ}(البقرة:٣١)، فيقولون:{قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}(البقرة:٣٢)، ويعلم الله آدم النبي الأسماء فيعلمها لهم، وآدم نبي مكلَّم كما جاء في الحديث الشريف.
وهؤلاء الأنبياء لا يعلمون الغيب بنص القرآن وبمئات بل بآلاف الوقائع، فإبراهيم - عليه السلام - لم يعلم بأنه يولد له ولد من زوجته سارة إلا بعد أن جاءته الملائكة، ولقد جاءته الملائكة في صورة بشر فذبح لهم عجلًا وقرّبه إليهم وهو لا يعلم حقيقتهم حتى أعلموه، ولم يكن يعرف مقصدهم حتى أعلموه أنهم ذاهبون لتدمير قرى لوط.
وأما لوط فإن الملائكة قد أتوا لإنجائه وإنجاء أهله، ولم يعلم حقيقة أمرهم إلا بعد أن علموه ولم يكن له كشف خاص، ولا علم خاص يستطيع أن يعرف مَن القوم.
وأما محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - فقد حدث له مئات الوقائع التي تدل يقينًا أنه لم يكن يعلم في الغيب إلا ما أعلمه الله إياه. فقد ظن أن جبريل الذي أتاه في الغار شيطان وقال لخديجة:«لقد خِفْتُ على نفسي»، ولم يعرف أنه الملك حتى أتى ورقة بن نوفل فأخبره أن الكلام الذي جاء به يشبه الكلام الذي نزل على الأنبياء من قبله. ولم يدر بخَلَد النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه سيؤذَى ويخرج من مكة أبدًا علمًا بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قد مكث يتعبد في غار حراء سنوات طويلة،