للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وبين الرعية حجبًا وأستارًا، فلا يمكنها أن تصل إليهم إلا بوسائط ووسائل، ترضي هذه الوسائط بالرشاوي والهبات، وتخضع لها وتتذلل، وتترضاها وتقرب إليها، فهل خطر ببالهم أنهم حين يفعلون ذلك يذمون ربهم، ويطعنون به، ويؤذونه، ويصفونه بما يمقته وما يكرهه؟

ترى لو كان يمكن لأحد الناس أن يخاطب الحاكم وجهًا لوجه، ويكلمه دون واسطة أو حجاب أيكون ذلك أكمل وأمدح له، أم حين لا يتمكن من مخاطبته إلا من خلال وسائط قد تطول وقد تقصر؟

الشبهة التاسعة: هل هناك مانع من التوسل المبتدع على وجه الإباحة لا الاستحباب؟ يقولون: ما المانع منه إذا فعلناه على طريق الإباحة؛ لأنه لم يأتِ نهْي عنه؟

والجواب: يجب أن لا ننسى في هذا المقام معنى الوسيلة إذ هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود كما تقدم بيانه. ولا يخفى أن الذي يراد التوصل إليه إما أن يكون دينيًا، أو دنيويًا، وعلى الأول لا يمكن معرفة الوسيلة التي توصل إلى الأمر الديني إلا من طريق شرعي، فلو ادعى رجل أن توسله إلى الله تعالى بآية من آياته الكونية العظيمة كالليل والنهار مثلًا سبب لاستجابة الدعاء لَرُدَّ عليه ذلك إلا أن يأتي بدليل، ولا يمكن أن يقال حينئذ بإباحة هذا التوسل؛ لأنه كلام ينقض بعضه بعضًا، إذ أنك تسميه توسلًا، وهذا لم يثبت شرعًا، وليس له طريق آخر في إثباته، وهذا بخلاف القسم الثاني من القسمين المذكورين وهو الدنيوي، فإن أسبابه يمكن أن تعرف بالعقل أو بالعلم أو بالتجربة ونحو ذلك، مثل الرجل يتاجر ببيع الخمر، فهذا سبب معروف للحصول على المال، فهو وسيلة لتحقيق المقصود وهو المال، ولكن هذه الوسيلة نهى الله عنها، فلا يجوز اتباعها بخلاف ما لو تاجر بسبب لم يحرمه الله - عز وجل -، فهو مباح، أما السبب المدَّعَى أنه يقرب إلى الله وأنه أرجى في قبوله الدعاء، فهذا سبب لا يُعرف إلا بطريق الشرع، فحين يقال: بأن الشرع لم يرد بذلك، لم يجز تسميته وسيلة حتى يمكن أن يقال إنه مباح التوسل به.

وشيء ثان: وهو أن التوسل الذي سلمنا بعدم وروده قد جاء في الشرع ما يغني عنه، وهو التوسلات الثلاثة التي سبق ذكرها في أول البحث، فما الذي يحمل المسلم على اختيار هذا التوسل الذي لم يَرِد، والإعراض عن التوسل الذي ورد؟ وقد اتفق العلماء على أن البدعة إذا صادمت سنة فهي بدعة ضلالة اتفاقًا، وهذا التوسل من هذا القبيل، فلم يجز التوسل به، ولو على طريق الإباحة دون الاستحباب!

وأمر ثالث: وهو أن هذا التوسل بالذوات يشبه توسل الناس ببعض المقربين إلى الملوك والحكام، والله تبارك وتعالى ليس كمثله شيء باعتراف المتوسلين بذلك، فإذا توسل المسلم إليه تعالى بالأشخاص فقد شبهه عملًا بأولئك الملوك والحكام، وهذا غير جائز.

[الشبهة العاشرة: قياس التوسل بالذات على التوسل بالعمل الصالح:]

حيث يقولون: إن من التوسل المشروع اتفاقًا التوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح، فإذا كان التوسل بهذا جائزًا فالتوسل بالرجل الصالح الذي صدر منه هذا العمل أولى بالجواز، وأحرى بالمشروعية، فلا ينبغي إنكاره.

والجواب من وجهين:

الوجه الأول: أن هذا قياس، والقياس في العبادات باطل.

الوجه الثاني: أن هذه مغالطة مكشوفة، لأننا لم نقل ـ كما لم يقل أحد من السلف قبلناـ إنه يجوز للمسلم أن يتوسل بعمل غيره الصالح، وإنما التوسل المشار إليه إنما هو التوسل بعمل المتوسل الصالح نفسه، فإذا تبين هذا قلَبْنا عليهم كلامهم السابق، فقلنا: إذا كان لا يجوز التوسل بالعمل الصالح الذي صدر من غير الداعي فأولى ثم أولى ألا يجوز التوسل بذاته.

[الشبهة الحادية عشرة: قياس التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على التبرك بآثاره:]

إن التبرك هو التماس من حاز أثرًا من آثار النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حصول خير به خصوصية له - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأما التوسل فهو إرفاق دعاء الله تعالى بشيء من الوسائل التي شرعها الله تعالى

<<  <   >  >>