للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

ودعائهم إلى بعض عباد الله، يخافونهم ويرجونهم، مع أن هؤلاء العباد المعبودين قد أعلنوا إسلامهم، وأقروا لله بعبوديتهم، وأخذوا يتسابقون في التقرب إليه سبحانه، بالأعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، ويطمعون في رحمته، ويخافون من عقابه، فهو سبحانه يُسَفّه في هذه الآية أحلام أولئك الجاهلين الذين عبدوا الجن، واستمروا على عبادتهم مع أنهم مخلوقون عابدون له سبحانه، وضعفاء مثلهم، لا يملكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًا، وينكر الله عليهم عدم توجيههم بالعبادة إليه وحده، تبارك وتعالى، وهو الذي يملك وحده الضر والنفع، وبيده وحده مقادير كل شيء وهو المهيمن على كل شيء.

ومن الغريب أن بعض مدعي العلم اعتادوا الاستدلال بالآيتين السابقتين على ما يلهج به كثير منهم من التوسل بذوات الأنبياء أو حقهم أو حرمتهم أو جاههم، وهو استدلال خاطئ لا يصح حمل الآيتين عليه؛ لأنه لم يثبت شرعًا أن هذا التوسل مشروع مرغوب فيه، ولذلك لم يذكروا هذا الاستدلال عن أحد من السلف الصالح، ولا استحبوا التوسل المذكور، بل الذي فهموه منهما أن الله تبارك وتعالى يأمرنا بالتقرب إليه بكل رغبة، والتقدم إليه بك قربة، والتوصل إلى رضاه بكل سبيل.

ولكن الله سبحانه قد علمنا في نصوص أخرى كثيرة أن علينا إذا أردنا التقرب إليه أن نتقدم إليه بالإعمال الصالحة التي يحبها ويرضاها، وهو لم يَكِل تلك الأعمال إلينا، ولم يترك تحديدها إلى عقولنا وأذواقنا، لأنها حينذاك ستختلف وتتباين، وستضطرب وتتخاصم، بل أمرنا سبحانه أن نرجع إليه في ذلك، ونتبع إرشاده وتعليمه فيه، لأنه لا يعلم ما يرضي الله ? إلا الله وحده، فلهذا كان من الواجب علينا حتى نعرف الوسائل المقربة إلى الله أن نرجع في كل مسألة إلى ما شرعه الله سبحانه، وبينه رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، ويعني ذلك أن نرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وآله وسلم - وهذا هو الذي وصانا به رسولنا محمد صلوات الله عليه وسلامه حيث قال: «تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله». (رواه مالك، والحاكم وحسّن إسناده الألباني).

الشبهة الثالثة: قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء:٦٤).

* قال الصوفية: يطلب الله - عز وجل - من المؤمنين الذهاب إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - واستغفار الله - عز وجل - عند ذاته الشريفة، وأن ذلك أرجى في قبول استغفارهم.

واستدلوا بالحكاية المشهورة التي ذكرت في تفسير ابن كثير عن العتبي قال: كنت جالسا عند قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فجاء أعرابي فقال: السلام عليك يا رسول الله سمعت الله يقول {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (النساء:٦٤). وقد جئتك مستغفرًا لذنبي، مستشفعًا بك إلى ربي ثم أنشأ يقول:

يا خيرَ من دُفِنتْ بالقاعِ أعظُمُه ... فطاب مِن طِيبِهنّ القاعُ والأكَمُ

نفسي الفداءُ لقبرٍ أنت ساكنُه ... فيه العفافُ وفيه الجودُ والكرَمُ

ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيني فرأيت النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - في النوم فقال: «يا عتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له»

والجواب من وجوه:

أولا: هذه القصة ضعيفة لم يثبتها أحد ممن أوردها، بل صنيع بعضهم يدل على ضعفها:١ - فالنووي قال في (المجموع شرح المهذب) (٨/ ٢٧٤) وفي آخر منسكه المعروف بـ (الإيضاح): «ومن أحسن ما يقول: ما حكاه أصحابنا عن العتبي مستحسنين له، قال: كنت جالسا عند قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ...

٢ - قال ابن كثير في (تفسيره): «ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه الشامل الحكاية المشهورة عن العتبي.

٣ - حكاها ابن قدامة في (المغني) بصيغة التمريض وهي تفيد التضعيف. (٣/ ٥٥٧) فقال: "ويُرْوَى عن العتبي ... ".

<<  <   >  >>