إشعار بأنه مجهول، ويؤيده أن ابن أبي حاتم نفسه ـ مع سعة حفظه واطلاعه ـ لم يَحْكِ فيه توثيقًا فبقي على الجهالة.
* ولا ينافي هذا قول الحافظ: ( ... بإسناد صحيح من رواية أبي صالح السمان ... ) لأننا نقول: إنه ليس نصًا في تصحيح جميع السند بل إلى أبي صالح فقط، ولولا ذلك لما ابتدأ هو الإسنادَ من عند أبي صالح، ولقال رأسًا: (عن مالك الدار ... وإسناده صحيح) ولكنه تعمد ذلك؛ ليلفت النظر إلى أن ها هنا شيئًا ينبغي النظر فيه، والعلماء إنما يفعلون ذلك لأسباب منها: أنهم قد لا يحضرهم ترجمة بعض الرواة، فلا يستجيزون لأنفسهم حذف السند كله، لما فيه من إيهام صحته لاسيما عند الاستدلال به، بل يوردون منه ما فيه موضع للنظر فيه، وهذا هو الذي صنعه الحافظ - رحمه الله - هنا، وكأنه يشير إلى تفرد أبي صالح السمان عن مالك الدار كما سبق نقله عن ابن أبي حاتم، وهو يحيل بذلك إلى وجوب التثبت من حال مالك هذا أو يشير إلى جهالته. والله أعلم.
ويؤيد ما ذهبت اليه أن الحافظ المنذري أورد في (الترغيب) قصة أخرى من رواية مالك الدار عن عمر ثم قال: «رواه الطبراني في (الكبير)، ورواته إلى مالك الدار ثقات مشهورون، ومالك الدار لا أعرفه». وكذا قال الهيثمي في (مجمع الزوائد).
الثاني: أنها مخالفة لما ثبت في الشرع من استحباب إقامة صلاة الاستسقاء لاستنزال الغيث من السماء، كما ورد ذلك في أحاديث كثيرة، وأخذ به جماهير الأئمة، بل هي مخالفة لما أفادته الآية من الدعاء والاستغفار، وهي قوله تعالى في سورة نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} (نوح:١٠ - ١١) وهذا ما فعله عمر بن الخطاب حين استسقى وتوسل بدعاء العباس - رضي الله عنهما -، وهكذا كانت عادة السلف الصالح كلما أصابهم القحط أن يصلوا ويدعوا، ولم ينقل عن أحد منهم مطلقًا أنه التجأ إلى قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وطلب منه الدعاء للسقيا، ولو كان ذلك مشروعًا لفعلوه ولو مرة واحدة، فإذا لم يفعلوه دل ذلك على عدم مشروعية ما جاء في القصة.
الثالث: هب أن القصة صحيحة، فلا حجة فيها، لأن مدارها على رجل لم يُسَمَّ، فهو مجهول أيضًا، وتسميته بلالًا في رواية سيف لا يساوي شيئًا، لأن سيفًا هذا ـ وهو ابن عمر التميمي ـ متفق على ضعفه عند المحدثين، بل قال ابن حبان فيه: «يروي الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث». فمن كان هذا شأنه لا تقبل روايته ولا كرامة، لا سيما عند المخالفة.
تنبيه: سيف هذا يَرِدُ ذِكْره كثيرًا في تاريخ ابن جرير وابن كثير وغيرهما، فينبغي على المشتغلين بعلم التاريخ أن لا يغفلوا عن حقيقة أمره حتى لا يعطوا الروايات ما لا تستحق من المنزلة.
الفرق بين التوسل بذات النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - وبين طلب الدعاء منه:
هذا الأثر ليس فيه التوسل بالنبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، بل فيه طلب الدعاء منه بأن يستسقي الله تعالى أمته، وهذه مسألة أخرى لا تشملها الأحاديث المتقدمة، ولم يقل بجوازها أحد من علماء السلف الصالح - رضي الله عنهم -، أعني الطلب منه - صلى الله عليه وآله وسلم - بعد وفاته.
* قياس بعض المتأخرين حياة الأنبياء في البرزخ على حياتهم في الدنيا قياس باطل مخالف للكتاب والسنة والواقع، وحسبنا الآن مثالًا على ذلك أن أحدًا من المسلمين لا يجيز الصلاة وراء قبورهم، ولا يستطيع أحد مكالمتهم، ولا التحدث اليهم، وغير ذلك من الفوارق التي لا تخفى على عاقل.
الاستغاثة بغير الله تعالى: ونتج من هذا القياس الفاسد والرأي الكاسد تلك الضلالة الكبرى، والمصيبة العظمى التي وقع فيها كثير من عامة المسلمين وبعض خاصتهم، ألا وهي الاستغاثة بالأنبياء الصالحين من دون الله تعالى في الشدائد والمصائب حتى إنك لتسمع جماعات متعددة عند بعض القبور يستغيثون بأصحابها في أمور مختلفة، كأن هؤلاء الأموات يسمعون ما يقال لهم، ويطلب منهم من الحاجات المختلفة بلغات متباينة، فهم عند المستغيثين بهم يعلمون مختلف لغات الدنيا، ويميزون كل لغة عن الأخرى، ولو كان الكلام بها في آن واحد! وهذا هو الشرك في صفات الله تعالى الذي جهله كثير من الناس، فوقعوا بسببه في هذه الضلالة الكبرى.
ويبطل هذا ويرد عليه آيات كثيرة. منها قوله تعالى: {قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلًا} (الإسراء: الآية ٥٦). والآيات في هذا الصدد كثيرة.
٢ - أثر فتح الكوى فوق قبر الرسول - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى السماء:
روى الدارمي في (سننه):حدثنا أبو النعمان ثنا سعيد ابن زيد ثنا عمرو بن مالك النكري حدثنا أبو الجوزاء أوس بن عبد الله قال: قحَط أهل المدينة قحطًا شديدًا، فشكوا إلى عائشة، فقالت: انظروا قبر النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف، قال: ففعلوا، فمطرنا مطرًا حتى نبت العشب، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم، فسمي عام الفتق.
قال الشيخ الألباني: وهذا سند ضعيف لا تقوم به حجة لأمور ثلاثة:
أولها: أن سعيد بن زيد فيه ضعف. قال فيه الحافظ في (التقريب): «صدوق له أوهام». وقال الذهبي في (الميزان): «قال يحيى بن سعيد: ضعيف، وقال السعدي: ليس بحجة، يضعفون حديثه، وقال النسائي وغيره: ليس بالقوي».
وثانيهما: أنه موقوف على عائشة وليس بمرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، ولو صح لم تكن فيه حجة، لأنه يحتمل أن يكون من قبيل الآراء الاجتهادية لبعض الصحابة، مما يخطئون فيه ويصيبون، ولسنا ملزمين بالعمل بها.
وثالثها: أن أبا النعمان هذا هو محمد بن الفضل، يعرف بعارم، وهو وإن كان ثقة فقد اختلط في آخر عمره. وقد أورده الحافظ برهان الدين الحلبي حيث أورده في (المختلطين) من كتابه (المقدمة) وقال (ص٣٩١): «والحكم فيهم أنه يقبل حديث من أخذ عنهم قبل الاختلاط ولا يقبل حديث من أخذ عنه قبل الاختلاط أو بعده».
وهذا الأثر لا يدرى هل سمعه الدارمي منه قبل الاختلاط أو بعده، فهو إذن غير مقبول، فلا يحتج به، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في (الرد على البكري) (ص٦٨ - ٧٤): «وما رُوي عن عائشة - رضي الله عنها - من فتح الكوة من قبره إلى السماء، لينزل المطر فليس بصحيح، ولا يثبت إسناده، ومما يبين كذب هذا أنه في مدة حياة عائشة لم يكن للبيت