وأما الرجلان: فاحفظهما عن أن تمشي بهما إلى حرام، أو تسعى بهما إلى باب سلطان ظالم، فإن المشيَ إلى السلاطين الظلمة من غير ضرورة وإرهاق معصيةٌ كبيرة، فإنه تواضع وإكرام لهم على ظلمهم.
وقد أمر الله تعالى بالإعراض عنهم في قوله تعالى:{وَلا تَركَنوا إِلى الَّذينَ ظَلَموا فَتَمَسَكُم النار}[هود: ١١٣]، وهو تكثير لسوادهم، وإن كان ذلك لسبب طلب مالهم؛ فهو سعى إلى حرام، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: ((من بدا جفا، ومن اتبع الصيد غفل، ومن أتى أبواب السلطان افتتن، وما ازداد عبد من السلطان قربًا؛ إلا ازداد من الله بعدًا)) (١).
وعلى الجملة فحركاتك وسكناتك بأعضائك نعمة من نعم الله تعالى عليك، فلا تحرك شيئًا منها في معصية الله تعالى أصلاً، واستعملها في طاعة الله تعالى.
واعلم أنك إن قصرت فعليك وباله، وإن شمرت فإليك تعود ثمرته، والله غني عنك وعن عملك، وإنما كل نفس بما كسبت رهينة، وإياك أن تقول: إن الله كريم رحيم يغفر الذنوب للعصاة؛ فإن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وصاحبها عاجز متواكل.
واعلم أن قولك هذا يضاهي قول من يريد أن يكون فقيهًا في علوم الدين من غير أن يدرس علمًا، واشتغل بالبطالة وقال: إن الله كريم رحيم قادر على أن يفيض على قلبي من العلوم ما أفاضه على قلوب أنبيائه وأوليائه من غير
(١) رواه الإمام أحمد (٢/ ٣٧١) بسند حسن. وانظر "الترغيب والترهيب" [كتاب القضاء وغيره-الترغيب في الامتناع عن الدخول على الظلمة"، "المجمع" (٥/ ٢٤٦). ومعنى الحديث كما في "فيض القدير": "من بدا جفا" أي: من سكن بالبادية صار فيه جفاء الأعراب. "ومن اتبع الصيد غفل" أي: من شغل الصيد قلبه وألهاه صارت فيه غفلة. وقال محشيه: الظاهر أن المراد غفل عن الذكر والعبادة، والظاهر أن الاكتساب بالاصطياد مفضول بالنسبة لبقية المباحات. "ومن أتى أبواب السلطان افتتن. وما ازداد عبد من السلطان قربَا إلا ازداد من الله بعدًا" وذلك لأن الداخل عليهم إما أن يلتفت إلى تنعمهم فيزدري نعمة الله عليه، أو يهمل الإنكار عليهم مع وجوبه فيفسق، فتضيق صدورهم بإظهار ظلمهم وبقبيح فعلهم، وإما أن يطمع في دنياهم وذلك هو السحت.