اعلم أيها الحريص المقبل على اقتباس العلم المظهر من نفسه صدق الرغبة وفرط التعطش إليه: أنك إن كنت تقصد بالعلم المنافسة والمباهاة، والتقدم على الأقران، واستمالة وجوه الناس إليك، وجمع حطام الدنيا؛ فأنت ساع في هدم دينك وإهلاك نفسك وبيع دنياك بآخرتك. فصفقتك خاسرة، وتجارتك بائرة، ومعلمك معين لك على عصيانك، وشريك لك في خسرانك، وهو كبائع سيف لقاطع طريق؛ فالدال على الشر كفاعله.
وإن كانت نيتك وقصدك بينك وبين الله تعالى من طلب العلم: الهداية دون مجرد الرواية؛ فأبشر فإن الملائكة تبسط لك أجنحتها إذا مشيت، وحيتان البحر تستغفر لك إذا سعيت.
ولكن ينبغي لك أن تعلم قبل كل شيء أن الهداية التي هي ثمرة العلم لها بداية، ونهاية، وظاهر، وباطن.
ولا وصول إلى نهايتها إلا بعد إحكام بدايتها، ولا عثور على باطنها إلا بعد الوقوف على ظاهرها.
وها أنا مشير عليك ببداية الهداية لتجرب بها نفسك، وتمتحن بها قلبك، فإن صادفت قلبك إليها مائلاً، ونفسك بها مطاوعة ولها قابلة؛ فدونك التطلع إلى النهايات، والتغلغل في بحار العلوم.
وإن صادفت قلبك عند مواجهتك إياها بها مسوفاً، وبالعمل بمقتضاها مماطلاً؛ فاعلم أن نفسك المائلة إلى طلب العلم هي النفس الأمارة بالسوء، وقد انتهضت مطيعة للشيطان اللعين ليدليك بحبل غروره، فيستدرجك بمكيدته إلى غمرة الهلاك، وقصده أن يروج عليك الشر في معرض الخير حتى يلحقك {بِالأخسَرينَ أَعمالاً الَّذين ضَلَ سَعيُهُم في الحَياةِ الدُنيا وَهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعا}(الكهف: ١٠٣، ١٠٤).