[إخبار النبي بالغيبيات فيه تعليم وتوجيه]
ثم إن أحاديثه عليه الصلاة والسلام في الغيب نوع تعليم وليست نوع إخبار محض فقد قال عليه الصلاة والسلام في شأن عثمان: (وبشره بالجنة على بلوى تصيبه)، وقال له: (لا تنزع قميصاً ألبسك الله إياه)، فلما جاء الخوارج يحيطون ببيت عثمان وطلبوا منه أن يترك الخلافة تذكر عثمان وصية النبي عليه الصلاة والسلام، فأبى ورفض أن يتنازل عن الخلافة.
وقال لـ عمار: (تقتلك الفئة الباغية)، فـ عمار رضي الله عنه وهو في جيش علي كان يعلم أنه على الحق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (تقتلك الفئة الباغية)، فجعل من الحديث دليل ثبات، وقد عمر رضي الله عنه كثيراً، وكان رجلاً طويلاً ترعش يداه في الحرب ومعه حربة، وقد قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (لن تموت حتى تقتلك الفئة الباغية، تشرب شربة ضياح تكن آخر رزقك من الدنيا)، فكانوا وهو في الجيش يقولون: ستموت الآن.
فيقول: لا، فما شربت لبناً بعد.
حتى عطش وهو في الحرب، فطلب لبناً ثم شربه في الحرب ثم قتل رضي الله عنه وأرضاه، فالنبي صلى الله عليه وسلم أعلمه بأنه على الحق فاستثمر الحديث.
وقال عليه الصلاة والسلام لـ أبي ذر: (اعتزل الفتن) وأخبره بأنه لا يصلح لولاية، وبين له أن أبا ذر فيه ضعف، والضعف لا يصلح به الإنسان زعيماً ولا قائداً، مع أن أبا ذر رضي الله عنه يبعث أمة وحده، وهو أصدق من أقلت الغبراء وأظلت الخضراء، ومع ذلك حذره النبي صلى الله عليه وسلم من الدخول في متاهات الناس فاعتزل ومات بالربذة رضي الله عنه وأرضاه.
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن التتار بأنهم ترك، وقال عليه الصلاة والسلام: (اتركوا الترك ما تركوكم) فهذا الحديث كانت مخالفته عظة لعل إنسان لا يعمل بالنص، وذلك أن خوارزم شاه كان من ولاة المسلمين في جهة إيران، وكان جنكيز خان المغولي الذي أثخن في المسلمين بعيداً ليس له علاقة أبداً بالمسلمين، فبعث تجاراً، فقدم هؤلاء التجار هؤلاء التجار قدموا على نائب لـ خوارزم شاه فقتلهم، فلما علم جنكيز خان بأنه قتلهم -وليس في نيته أن يغزو بلاد المسلمين- بعث إلى خوازرم شاه يقول له: بلغني أن نائبك على بلاد كذا وكذا قتل التجار، ولم تجر عادة الملوك بقتل التجار، فإن كنت لا تعلم فاعلم وخذ لنا القصاص من نائبك.
فماذا فعل غفر الله له؟! لقد قتل الرسول، فلما بلغ جنكيز خان أنه قتل الرسول وقتل التجار عمداً داهم تلك البلاد وفعل ما فعل، حتى قال ابن كثير رحمه الله: فقتل قتلاً لم يعلم ولم ينقل أبشع منه كله، وذك لمخالفة وصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وبعض الناس يقرأ أحداث الساعة، فيقدم رأيه وعقله على قول النبي صلى الله عليه وسلم، والأمور لا تساق هكذا، فهناك هدي بينه الله وبينه رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا كنت تريد أن تحكم عقلك فهذا شيء آخر، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام ما ترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذر أمته منه، والناس كلهم صادقون في محبتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ولكن الصدق يلزم معه أمر آخر، وهو العلم، والعلم يلزمه أمر أعظم منه، وهو الصبر، فقد تجد في أحد الناس علماً ولكن ليس لديه صبر على أن ينفذ العلم الذي يعلمه، فكل الناس يعلمون أن الإنسان لن يموت إلا بأجله، ولكن ليس كل الناس يصبرون على البلاء رغم اتفاقهم في العلم، وكل الناس يعلمون أنه إذا ابتلي فذلك رفع للدرجات وتكفير للخطايا، ولكن ليس كل أحد يصبر على هذا العلم الذي يعلمه.
فكذلك التعامل مع الأحداث التاريخية يحتاج إلى صبر؛ لأنا لا نشك في أن الناس يحبون نبيهم، فكل المسلمين برهم وفاجرهم يحبون نبيهم، ولكنهم يحتاجون إلى علم، ثم إلى صبر، فليس كل من معه علم لديه صبر، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يرى أصحابه يُقتلون أمامه، ويضربون ويؤذون، ويمر على عمار وعلى ياسر أبي عمار، وتقتل سمية من أجله، وقد كانت قبل بعثته صلى الله عليه وسلم مبجلة عند أبي جهل، وكان ياسر مرفوع المقام عند أبي جهل، فمن أجله قتلوا، وكان يمر عليهم ويقول: (صبراً آل ياسر، فإن موعدكم الجنة).
فالمراد أن الأحداث التاريخية تُنَزَّل بحسب الواقع حتى يصل الإنسان إلى مراده، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ولكنكم قوم تستعجلون)، فيحتاج الإنسان إلى عمل، ويحتاج إلى يقين، ويحتاج إلى أناة، ويحتاج إلى أن يستظل بعلم الشرع الذي علمه الله لرسولنا صلى الله عليه وسلم.
إن الإخبار بالغيبيات لا يعني أن يطلبها المرء لأنها قادمة، بل إذا وقعت وهو موجود يتعامل معها على منهاج محمد صلوات الله وسلامه عليه.