[تصفية المؤمنين قبل دخول الجنة]
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد: فإن أهل الموقف يوم القيامة ينصرفون إلى دارين لا ثالث لهما: إما الجنة، وإما النار.
والجنة -أسكننا الله وإياكم إياها- درجة عالية كتبها الله جل وعلا للصالحين والمؤمنين والمتقين من عباده، وجعلها وعداً مسئولاً يسأله عباده إياها، والحديث عنها مشهور مستفيض، ولذلك سنقف وقفات علمية معرفية غير وعظية على ما يغلب على الظن أنه غير معروف، أو -على الأقل- غير مشتهر.
إن أهل الطاعات إذا انصرفوا إلى الجنة يحبسون على قنطرة قبل الجنة؛ لأن الله قال: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:٨٩].
فدخول الجنة يستلزم قلباً سليماً، فلا بد من أن يسعى الإنسان في سلامة قلبه، ومع ذلك يبقى لبعض الناس مع غيرهم شيء من المظالم في الدنيا قلما يسلم منها أحد من هؤلاء الذين كتب الله لهم الجنة، فقبل أن يدخلوا الجنة يحبسون على قنطرة؛ لأن الله حكم عدل، فيقتص منهم لمظالم كانت بينهم حتى ينقوا ويهذبوا، ثم بعد أن ينقوا ويهذبوا ولا يبقى في الصدور والقلوب شيء يؤذن لهم بدخول الجنة، قال الله جل وعلا: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:٤٣].
فالله جل وعلا أسند النزع إلى ذاته العلي، وهذا لا يقع في الدنيا، وإنما يقع في الآخرة، ولهذا روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إني لأرجو الله أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:٤٣]، وعثمان رضي الله عنه أشد هذه الأمة حياءً، زوجه النبي صلى الله عليه وسلم ابنتيه، وعلي رضي الله عنه زوج فاطمة، وأول من أسلم من الفتيان، وله مشاهد عظام في الدين، وطلحة رضي الله عنه شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وقال يوم أحد: (أوجب طلحة) أي: ثبتت له الجنة، والزبير رضي الله تعالى عنه هو ابن صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فيه عليه الصلاة والسلام: (لكل نبي حواريون، وحواريي من أمتي الزبير).
ومع ذلك وقع بين هؤلاء الأربعة ما وقع باجتهاد منهم، وهم منارات شامخة، وقامات سامقة، ومجنون من يجعل نفسه حكماً بين هؤلاء العظام، ولكن نقول: هم أصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم، توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، وهؤلاء الأربعة مشهود لهم بالجنة، فهم من العشرة المبشرين، وإنما يأتي الإنسان ما يأتيه من الضرر عندما يقحم عقله أو نفسه فيما ليس فيه مجال.
ومثال ذلك في المعتزلة، وهي فرقة ظهرت قديماً، ومنهم رجل يقال له: عمرو بن عبيد، كان مشهوراً بالصلاح والتقوى والورع، فلو خاصمته في ملايين الملايين لتركها لك، حتى إن أبا جعفر المنصور كان يستدعيه، فقال له: يوماً وهو الخليفة، والناس يتمنون مجالس السلطان لما يكون فيها من العطايا، قال له: اطلب حاجتك.
فقال: حاجتي ألا تستدعيني.
أي: لا تطلب مني أن أدخل قصرك ولا آتيك: فخرج، فقال أبو جعفر أبياته الشهيرة: كلكم يمشي رويد كلكم يطلب صيد غير عمرو بن عبيد يعني: كل من يأتيني هنا يتلطف في الكلام يريدا العطية، غير عمرو بن عبيد، فإنه لا يريد شيئاً.
فهذا الرجل -على ما كان عليه من الورع وكثرة الصلاة والصيام- يقول: لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبير لما قبلت شهادة أحدهم ولو في قشرة بصلة؛ لأنهم فساق.
فانظر إلى العقل الذي دعاه إلى أن يعبد كيف دعاه إلى أن يقول هذا على هؤلاء؟! يقول: لأنهم اقتتلوا، والحق لابد من أن يكون مع أحدهما، فالآخر الذي ليس معه الحق ظالم لأخيه، فهو فاسق، والفاسق لا تقبل شهادته.
فنسي بحار الفضل العظيمة لهؤلاء الأربعة ولغيرهم من الصحابة، وأقحم نفسه حكماً في رجال زكاهم الله جل وعلا في القرآن، وزكاهم رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل إنسان يتكلف شيئاً ليس له تظهر عورته، وتبين سوءته، ويظهر للناس جهله، ولكن العاقل يعلم أن ثمة أشياء لم يكلفنا الله بها، ولا نسأل عنها، ولا نطيق لها حملاً، فنسأل الله لنا ولأنفسنا ولغيرنا العافية منها.