ثم بعد ذلك يجرد من ثيابه التي مات فيها ويغسل، وهذا فيه تكريم للميت، قال الله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ}[الإسراء:٧٠]، فكرمهم وهم أحياء بما يليق بهم، وكرمهم جل وعلا وهم موتى بما يليق بهم، وقال الله:{ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}[عبس:٢١].
وغسل الميت فرض كفاية، وأولى الناس بغسل الميت وصيه، أي: من أوصى الميت بأن يغسله، وقد أوصى الصديق رضي الله عنه وأرضاه عند موته بأن تغسله زوجته أسماء بنت عميس، وأوصى أنس بن مالك رضي الله عنه عند موته بأن يغسله محمد بن سيرين معبر الرؤى المعروف، وكان يومها مسجوناً، ثم أخرج من السجن فغسل أنساً رضي الله عنه ثم أعيد إلى السجن.
وكان محمد بن سيرين يعبر للناس الرؤى ويقول: إن صدقت رؤياك حصل كذا بقدر الله، فيقع الأمر كما أخبر.
فجاءه رجل ذات يوم فقال: رأيت أحد الرجال نبت في ساقه شعر، ولم يكن يدري فيمن رؤيت الرؤيا، فقال: هذا رجل يركبه دين فيسجن فيموت في سجنه.
فقال له السائل: لقد رأيتها فيك يعني: رأيت في المنام أنه نبت على ساقك شعر.
فوقع الذي عبر به، فركبه دين ثم سجن ثم مات رحمه الله تعالى في سجنه، وفي أيام سجنه مات أنس بن مالك، وكان أنس يعرف صلاح صلاح محمد بن سيرين، وأنس ممن عمر من الصحابة، ويبدو أنه في وقته لم يكن في بلدته كثير من الصحابة، فأوصى بأن يغسله التابعي الجليل محمد بن سيرين، فأولى الناس بغسل الميت من أوصى الميت بأن يغسله.
أما إذا لم يكن الميت قد أوصى فلا شك في أن عصبته هم الذين يتولون غسله، فالأب ثم الجد ثم الابن ثم باقي العصبة الأقرب فالأقرب، والنبي عليه الصلاة والسلام لم يوص من يقوم بغسله، فغسله أهل بيته علي والعباس وابناه قثم والفضل وأسامة؛ لأنه مولاه، وشقران؛ لأنه مولاه، وأوس بن خولي أنصاري شهد غسل النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لم يباشر.
وهنا مسألة فقهية، وهي أن الذكر والأنثى لا يجوز لأحدهما أن يغسل الآخر إلا في حالتين: الأولى: حالة الزوجية، فيجوز للزوجة أن تغسل زوجها، فإن أسماء بنت عميس غسلت أبا بكر، ويجوز للرجل أن يغسل زوجته، ولا أعلم أن هذا وقع، ولكنه جائز شرعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به عائشة.
الحالة الثانية: إذا كان أحد الميت -ذكراً كان أو أنثى- دون سبع سنين، فيجوز أن تغسله امرأة أو يغسله رجل؛ لأن من كان دون سنين لا يعتبر له عورة يخشى من نظر الآخر إليها.