للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بالبعد ليشعر العبد أن الله قريب منه ولأن الياء تفيد التنبيه فالعبد في حاجة للتنبيه عند النداء، والله تعالى ليس كذلك.

وأيضا فإن مراعاته التعبيرات التي يقصد منها مراعاة الأدب العالي قد سار فيها القرآن بالإتيان بالكناية عن التصريح في الأمور التي يستحى من ذكره والتصريح به، كما كنّى عن الجماع باللّباس والمباشرة قال تعالى {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} (١) {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} (١) وكنّى عن قضاء الحاجة بقوله {كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ} (٢).

ومن ذلك أيضا قد أتى القرآن بالالتفات الذي ينبئ في القرآن عن أدب الإقبال من الغيبة إلى الحضور بالنسبة إلى العبد إذا كان مقتضى الحال يستدعيه كقوله تعالى:

{الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (٣) ثم عدل عن الغيبة إلى الخطاب فقال: {إِيّاكَ نَعْبُدُ وَإِيّاكَ نَسْتَعِينُ} وكقوله تعالى {حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} (٤) فعدل عن الخطاب إلى الغيبة وقوله تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى} (٥) فجرى العتاب على حال تقتضيه الغيبة مع أن الآية نزلت عليه وهو المخاطب بها، ثم توجّه الخطاب له فقال تعالى: {وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكّى} (٦).

فهذا العدول من الخطاب إلى الغيبة ومن الغيبة إلى الخطاب إنما هو لمراعاة الأدب العالي، لما في الخطاب بعد الغيبة من تقوية للمعنى الثاني، أو تخفيف للمعنى الأول على النفس حين إلقائها إليه. ألا ترى في الشّكر لله والثناء عليه، كان الأدب يقتضي الغيبة، وحين العبادة وإظهار الضّعف كان الخطاب أليق بأدب الخطاب؟ ولعل العتاب أخفّ على المعاتب بلفظ الغيبة والاستفهام أليق به أن يكون من مخاطب.


(١) البقرة ١٨٧/.
(٢) المائدة ٧٥/.
(٣) الفاتحة ١/-٣.
(٤) يونس ٢٢/.
(٥) عبس ١/-٢.
(٦) عبس ٣/.

<<  <  ج: ص:  >  >>