ومن ذلك أيضا ما علّمنا الله تعالى في ترك التنصيص على نسبة الشرّ إلى الله تعالى وإن كان هو الخالق لكل شيء كما قال تعالى:{بِيَدِكَ الْخَيْرُ}(١) واكتفى بذلك واستغنى بها عن ذكر الشرّ فلم يقل (وبيدك الشر)،وذلك بعد قوله:{قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. مع أن السياق أن يقول وبيدك الشرّ. لأن ما نصّ على فعل الله له خير وشرّ باعتبار إطلاق الإنسان، فإتيان الملك وعزّة الشخص هي خير بالنسبة للإنسان، ونزع الملك وذلّة الشخص هي شرّ بالنسبة للإنسان، وقد نسبها الله لنفسه بأنه هو الذي فعلها، وقال في ختام الآية {إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهو أيضا يشمل الشرّ كما يشمل الخير. ومع ذلك قال بيدك الخير واكتفى بذلك عن ذكر الشر ولم يقل وبيدك الشر، تعليما لنا بأن نتأدّب بأدب الخطاب.
وهذا كله، وهو التعبير بتعبيرات يقصد منها مراعاة الأدب العالي، هو من معهود العرب في كلامهم، ورد في الشعر وفي الخطب. وهكذا يمضي القرآن في ألفاظه وعباراته على ألفاظ العرب وعباراتهم ومعهودهم في كلامهم لا يخرج عن ذلك شعرة، ويحيط بكل ما هو في أعلى مرتبة من بليغ القول مما ساروا عليه. فواقعه أنه عربي محض، لا مدخل للألسن الأعجمية به، فكان حتما على من أراد تفهّم القرآن أن يأتيه من جهة اللسان العربي، ولا سبيل إلى تطلّب فهمه من غير هذه الجهة.
ولذلك كان من المحتّم أن يفسّر القرآن من حيث ألفاظه وعباراته، ومن حيث مدلولات هذه الألفاظ والعبارات، مفردات وتراكيب، في اللغة العربية فحسب. فما ترشد إليه اللغة العربية وما يقتضيه معهودها يفسّر به القرآن، ولا يجوز أن يفسّر من هذه الناحية إلا حسب ما تقتضيه اللغة العربية ليس غير. وطريق ذلك النقل الموثوق به من طريق الرواية التي يرويها الثقة الضابط لما يقول عن فصحاء العرب الخالصة عربيّتهم.