للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كما يقال: خرجت نفس فلان؛ أي روحه. وتذكر ويراد بها ما في القلب، كما يقال:

أضمر فلان ما في نفسه كذا وكذا.

فإذا احتمل اللفظ هذه الوجوه كلّها وجب حمل الآية على أصحّ الوجوه؛ لقيام الدّلالة على وجوب تنزيه صفات الله تعالى عما لا يجوز. ولو كانت النفس لا تستعمل إلاّ في أمر كائن في غيره لوجب في قوله تعالى: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها} (١) أن يقال: إن النفس نفسا، فإذا بطل ذلك صحّ أن المراد به الجملة والذات، كأنه قال: يوم يأتي كلّ أحد يجادل عن نفسه، فكان المراد بقوله: {(وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ)} جملة الأمر، وحقيقة ما عند الله تعالى.

فإن قيل: ليس في النّصارى من اتخذ مريم إلها فما معنى هذا القول؟ قيل: إن لم يكن فيهم من يقول هذا القول اليوم، فلا بدّ أن يكون فيهم من قال ذلك؛ لأن هذه الآية تدلّ على أنّهم قد قالوا ذلك، وتصديق لكتاب الله تعالى أوجب من التصديق لنقل ناقل.

قوله عزّ وجلّ: {ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ؛} أي ما قلت لهم شيئا إلاّ القول الذي أمرتني به، {أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ؛} أي وحّدوه وأطيعوه، {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ؛} معناه:

فلمّا قبضتني إليك من بينهم، ورفعتني إلى السّماء كنت أنت الحفيظ عليهم، {وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (١١٧)؛من مقالتي ومقالتهم، مطّلع عالم مشاهد.

وذهب بعض المفسرين إلى أن معنى قوله: {(فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي)} أمتّني، وقالوا: إنّ عيسى ليس بحيّ في السّماء. إلاّ أنّ القول الأول أشهر، ويحتمل أنّ الله تعالى أماته، ثم أحياه ورفعه إلى السّماء.

وقال الحسن: (الوفاة في كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه: وفاة الموت كقوله تعالى {اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها} (٢)،ووفاة النّوم كقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي}


(١) النحل ١١١/.
(٢) الزمر ٤٢/.

<<  <  ج: ص:  >  >>