والإنسان لفظ واقع على آدم وعلى ذريته أبداً اسماً للقدر المشترك فيه، وهو الحيوان الناطق أي المتفكر بالقوة، والآدمي كله مشترك في هذه الفضيلة، ولذا سخر له غيره، وابتلي هو بالتكليف بمعرفة الخالق تعالى وبعبادته، وهذه مزية أخرى لجميعه، ولقد خصه الله تعالى في أرزاقه وفي خَلْقه وفي خُلُقه وفي لباسه وركوبه وغير ذلك بكثير، قال تعالى:) وَلَقَدْ كَرَّمَنَا بَني آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ في البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ منَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثيِرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (وإنما قال تعالى: " ... عَلَى كَثيرٍ ... " لبقاء الملائكة على ما في ذلك من النزاع المشهور بين الجمهور.
لطيفة: كان بعض المخارفين يقول: نحن معشر المحرومين لسنا من ولد آدم لأن الله تعالى قد قال فيهم ما تقدم يعني الآية، وليس عندنا شيء من ذلك ويقول: كان لآدم عبد فنحن جميعاً من ولده، وليس بيننا وبين آدم نسب أصلاً قلت: وهذا دخل في أحاديث الخرافات والمضحكات الباطلة، والإنسان كله ابن آدم كما قال صلى الله عليه وسلم:" أنْتُمْ بَنُو آدَمَ ... " والآية صحيحة على الجملة وصحيحة أيضاً على التفصيل لأن كل آدمي ولو بلغ في حرمان الرزق والفقر المدقع ما عسى أن يبلغ هو أفضل من سائر الحيوان ومن الجن بعقله وصورته الحسنة وانتصاب قامته وأكله بيديه معاً وسائر تصرفاته وتناوله من الطيبات التي لا تصل إليها الحيوانات ومتمكن من الركوب في البر والبحر إلى غير ذلك، فهو مكرَّمٌ أي تكريم، ومفضل أي تفضيل.
ثم إن أفراد الإنسان متفاوتون فيما ذكر من مزية العقل كثرة وقلة تفاوتاً عظيماً، وأعلاهم في ذلك الأنبياء ثم الصديقون ثم سائر الزاهدين في العرض الفاني، وأما أقلهم عقلاً فلا ينضبط وإن وقع التعبير عنه في كثير من كلام الأنبياء والحكماء، فقد انتهى بعض الأفراد إلى مزاحمة البهائم وما يقع من التعبير عنه يرجع إلى الإضافة.
ثم إن الله تعالى خص آدم وبنيه بمزايا أخرى دينية ودنيوية يمتاز بها البعض عن البعض لا مشتركة كالأولى، أعلاها في الدينية النبوة ثم الخلافة عنها في الظاهر أو الباطن أو فيهما أو في السياسة، وفي الدنيوية الملك ثم النيابة عنه، ومنها القوة وكثرة المال وكثرة الإنفاق واصطناع الصنائع وابتناء المآثر وكثرة العدد والفصاحة والصباحة ونحو ذلك من كل وصف محمود في الدين أو في الدنيا، فمن حصل له شيء من ذلك حصل له شرف على قدره، وثبت لولده عدّ ذلك في مفاخر أبيهم، وهو المراد بالحسب في لسان العرب، فكل واحد عندهم حسبه هو ما يعد من مفاخر آبائه، فهو من الحساب، ومن ليس له ما يعد فلا حسب له، فالخصلة الحميدة تكون مفخرة لمن اتصف بها ولمن انتسب إلى من اتصف بها فيشرف نسبه بذلك.
إذا علم هذا فنقول: إن آدم أبا البشر على نبينا وعليه السلام قد حصل له الشرف بالنبوءة وسائر الخصال الحميدة وبسجود الملائكة له وولادته للأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين، وهذا كله من المزايا فجميع بنيه شرفهم ومشروفهم ورشيدهم وغويهم يحصل لهم بالانتساب إليه شرف من هذا الوجه يفضلون به غيرهم ممن ينتسب إلى جني أو بهيمة، فلا تظن أن دابة لكونها لم تعص الله تعالى تكون أشرف من إنسان كافر أو فاسق إلاّ من هذا الوجه، وأما في النسب والحسب والصورة وغيرها فهو أشرف منها، ولذا يوارى إن مات ولا توارى هي، غير أن الافتخار بنسبة آدم قد تنوسي لطول العهد كما تنوسيت رحمه.
ومن أطرف ما وقع لسيدنا معاوية رضي الله عنه أن جاءه إنسان فقال له: أسألك بالرحم التي بيني وبينك إلاّ ما رفدتني فقال: أنت من عبد مناف؟ قال: لا. قال: أنت من قريش؟ قال: لا قال: أنت من العرب؟ قال: لا. قال: أي رحم بيني وبينك؟ قال: رحم آدم فقال: رَحِمٌ مَجْفوَةٌ لأكونن أول من وصلها، فأعطاه.