وقد طرق أسماع العوام من قبل اليوم كلام أهل الصولة كفحول القادرية والشاذلية - رضي الله عنهم - وكلام أرباب الأحوال في كل زمان فتعشقت النفوس ذلك، وأذعن له الجمهور، وفاضوا بالتشبه بهم، فلما شئت أن تلقى جاهلاً مسرفاً على نفسه لم يعرف بعد ظاهر الشريعة فضلاً عن أن يعمل " به " فضلاً عن أن يخلص إلى الباطن فضلاً عن أن يكون صاحب حال فضلاً عن أن يكون صاحب مقام إلاّ وجدته يصول ويقول، وينابذ المنقول والمعقول، وأكثر ذلك في أبناء الفقراء يريد الواحد منهم أن يتحلى بحلية أبيه ويستتبع أتباعه بغير حق ولا حقيقة بل لمجرد حطام الدنيا فيقول: خدام أبي " وزريبة أبي " ويضرب عليهم كمغرم السلطان، ولا يقبل أن يحبوا أحداً في الله أو يعرفوه أو يقتدوا به غيره، وإذا رأى من خرج يطلب دينه أو من يدله على الله تعالى يغضب عليه ويتوعده بالهلاك في نفسه وماله وقد يقع " له " عليه شيء من المصائب بحكم القضاء والابتلاء فيضيفه إلى نفسه فيزداد بذلك هو وأتباعه ضلالاً، يخترق لهم من الخرافات والأمور المعتادات ما يدعيه سيرة وديناً يستهويهم به ثم يضمن لهم الجنة على مساوئ أعمالهم والشفاعة يوم الحشر فيقبض على لحمة ذراعه فيقول للجاهل مثله: أنت من هذه اللحمة، فيكتفي ابتهال العوام بذلك ويبقون في خدمته ولداً عن والِدٍ قائلين: نحن خدام الدار الفلانية، وفي زريبة فلان لا نخرج عنها، وكذا وجدنا آبائنا، وهذا هو الضلال المبين، وهؤلاء قطاع العِباد عن الله وعن دينه داخلون في شبه ما قال النبي صلى الله عليه وسلم في ملوك السوء وخصوصاً " في " بني أمية، ففي الحديث:" إذَا بَلَغَ بَنُو أبي العَاصي ثَلاثِينَ رَجُلاً اتَّخَذُوا عِبَادَ اللهِ خَوْلاً وَمَالَ اللهِ دُوَلاً.... الحديث ". ولم يعلم الجهال أنهم كيف يكونون من لحمة ذراعه بمجرد دعواه إذا لم يجعلهم الله تعالى منها؟ وبعد أن يجعلهم كيف يغترون بذلك قبل أن يعلموا أين مصير تلك اللحمة؟ ولعله النار، وماذا ينفعهم اجتماعهم في النار؟ نعوذ بالله من البوار، قال تعالى:) وَلَنْ يَنْفَعَكُمْ اليَوْمَ إذْ ظَلَمْتُمْ أنَّكُمْ في العَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (فالناس عند الله ثلاثة: مقبول مقبول له، ومقبول غير مقبول له، ومردود، فالمردود لم ينج بنفسه فكيف ينجو الناس على يده؟ والمقبول لنفسه غايته نفسه، والمقبول له التكلم في الغير هو الذي يرجى الانتفاع به بإذن الله تعالى، إما في العموم أو في الخصوص كثيراً أو قليلاً، فهذا المدعي الذي يتألّى على الله ويغر عباده ما يُدريه أي الثلاث هو؟ فإن كان مردوداً فيا ويله، وإن كان مقبولاً في خاصة نفسه فما له وللناس؟ وإن كان مقبولاً له الشفاعة فلا يدري أفي كل هؤلاء أم في بعضهم أم في غيرهم؟ فحقه أن يدع الناس ويبكي على نفسه حتى يرى أين هي، وإن قوي رجاؤه حيناً في الله لنفسه أو لغيره فليقل: إن قبلني الله وقبل لي، نسأل الله التوفيق.
وأما ما نحن فيه من ادعاء الاطلاع على الغيب والتظاهر بالكشف والتصرف في الوجود فهو الكثير في زماننا في المنتسبين دعوى منهم وتشبعاً بما لم يعطوا إلاّ من عصمه الله وقليل ما هم، فمنهم من يستند إلى مجرد خيالات منامية ويتأولها لنفسه ويحكم بها كما مرّ، ومنهم من يحكم ظناً وخَرْصاً و " ثم " لا يبالي بالفضيحة ولا ينتهي عن غيه، فإذا اتفق صدقه مرة اتخذ ذلك حجة واتخذه له جهال العوام فيقولون والله لقد سمعنا منه كلاماً حقاً، فصاروا في ذلك كأصحاب الكهان من جاهلية العرب، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم عنهم بأن الرِّئي من الجن يخطف الكلمة من الملك فيقرها في أُذن وليّه من الإنس ثم يخلط معها مائة كذبة فيقول الناس: ألم يخبرنا يوم كذا بكذا فكان حقاً للكلمة التي تلقفها من الجني، وهكذا المذكورون. وترى الواحد منهم يخبر بأمر أو بعد قضاء حاجة لوقت فإن اتفق صدق ذلك بمصادفة قوله للقضاء الأزلي تبجح بذلك ورعَد على الناس وبَرَق، وإن كذب اكفهر في وجوه الناس وتنكر، أو تغيب أياماً حتى ينسى ذلك فيعود إلى ترّهاته، وما مثاله في ذلك إلاّ مثال امرأة أيّمِ عندها عدة بنات مشهورة بالملاحة ولكنهن بغايا فاسدات كما قال ذو الرمة:
على وجه مَيَّ مَسْحةٌ من ملاحةٍ ... وتحت الثياب العار لو كان باديا