فجعلت تنوه بذكرهن وتستميل إليهن قلوب السفهاء أمثالهن حتى اشتهر أن عند فلانة البنات الحسان، فجاء مغرور فخطب إليها فأنكحته واحدة منهن فانقلب جذلان لا يبالي ما أنفق ولا ما أهدى منشداً بلسان حاله:
ومن طلب الحسناء لم يغله المهر
وجعلت للدخول موعداً فلما دخل أخفق فأصبح بئساً خاسر الصفقة، وحين أحست العجوز بذلك تنكرت وتعيبت حتى نسي ذلك فرجعت تذكر بناتها أيضاً فيجيء أحمق آخر خاطباً فإذا قال له النصحاء ويحك أليس لك فيما وقع لفلان مع هذه الفاجرة عبرة؟ يقول من فرط شغفه بما سمع من الحسن: ذلك أمر قد يتفق، ولعله في تلك البنت فقط لا في غيرها، فيتقدم ويقع له كما وقع للآخر، ثم يجيء مغرور آخر لا علم له بما كان وهكذا إلى أن يتفق لواحد أن يجد الأمر كما يجب فتخرج وتطيل لسانها وتقول: من عنده في الوجود مثل بناتي؟ ويقول الناس: والله إن فلاناً تزوج منها بنتاً فوجدها كما يحب وتذهب تلك المساوي كلها في هذه الحسنة الواحدة، فما أظرف هؤلاء الحمقى إذ يحكمون بأن الحسنات وإن قَلّت يذهبن السيئات وإن كثرت، وهكذا الفقير المدعي يتظاهر بإخبارات وتصرفات هي حسنة لذيذة عند العوام لموافقتها لشهواتهم وحاجاتهم وهي فاسدة لبطلانها وانبنائها على غير أساس، فإذا ظهر كذبه في الواحدة قالوا: سبحان الفاعل لما يشاء، والقادر يحنث عبد القادر، وبهذا أيضاً يعتذر هو.
وكنت تحدثت مع بعض الأصحاب في هذا المنزع فقلت لهم: إن المدعين لا يدخلون في الإسلام حتى يفتضحوا فاستعجبوا من ذلك وسألوا عن تأويله فقلت لهم: إن المدعي حين تهيج له الظنون الكاذبة والوساويس الباطلة يحكم بوقوع أمور ولا يذكر الله تعالى ولا يعرج على مشيته وسعة علمه وعظيم قهره، حتى إذا افتضح ببطلان ما قال رجع إلى الحق وجعل يقول: الأمر أمر الله والحكم حكمه، وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
فهلا تلا حاميمَ قبل التقدم
ومنهم من يتظاهر بالوجد والسكر وأول ما يقول في ذلك، فإن كذب وليم يقول: والله ما أدري " حين تكلمت " ما أقول، وما لي اختيار، ويظن أنه يتخلص بهذا من الملامة، وهيهات ذلك! فإنه إن كان نطقهُ عن عمْد فهو افتراء للكذب، وإلاّ فالشيطان يلعب به ترقيصاً وضرباً واستنطاقاً، وناهيك بها نقيصة.
ودخل ذات مرة عليّ الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد الصالح بن المعطي وأنا إذ ذاك بمدينة مراكش حرسها الله ومعه رجل أسود من ناحية المشرق، فتحدث الأسود وقال: إنه من وادي العباس، وزعم أنه كان ذهب إلى بغداد زائراً للشيخ عبد القادر رضي الله عنه، وأنه بقي في مقامه أياماً، وأنه رآه فاستتابه ثم أمره بالتوجه إلى شيخ من أهل الوقت في نهر تِيرا يقال له أبو عبد الله، وأن بين بغداد وبين ذلك البلد نحو عشرين مرحلة، كلها قفار معاطش لا يعمرها إلاّ الحيات والثعابين، وأنه قال له: إنك ستبلغ في ثلاث ولا ترى بأساً، فبلغ في ذلك سالماً، وأنه بقي عند الشيخ الآخر أياماً فرده إلى بغداد وبلغها في ذلك أيضاً، وأنه أمره الشيخ عبد القادر بالتوجه إلى بلاد المغرب لزيارة الصالحين، فلما رأيت ذلك طمعت أن تكون له رائحة، وكانت لي حاجة فأردت استنجاده فيها، فحركت الصالح وكانت تعتريه هزّة فتحرك وصاح، فلما تحرك " تحرك " ذلك الرجل وكثر اضطرابه وزعيقه " ثم " وعد بالحاجة لأمد قريب، وزعم أن الشيخ عبد القادر أو الحاكم بذلك، فلم يلبث أن حل الأجل ولم يقع ذلك، وروجع فلم يوجد عنده حاصل، فعلم أن الشيطان استفَزَّه، فقلت للصالح ارتجالاً مطايبة ونصحاً:
أين الذي قد قال يا صالح ... من هو عندَ زعمه صالح
وإذ بدا ما قاله زائفاً ... فهو لعمري الكاذب الطالح
يلعب شيطان به جهرةً ... فهو إلى وسواسه جانح
يحسبه القطب الذي يدعي ... والقطب لا يكذب يا صالح
أنصحه كي يقلع عن غيه ... فحسبه المنتهج
تقوى الإله واعتصام به ... في سنة والعمل الصالح
هذا لعمري غنية المغتني ... وذا لعمري التجر الرابح
يا أيها الناس اعلموا إنما ... عبد الإله الظافر الناجح
من يعبد المولى ويعنى بما ... يعنيه لا وانٍ ولا مازح
ولا أخو دعوى ولا مفتر ... ولا بمرتع الهوى سارح
ولا عنود عن سبيل التقى ... يوماً ولا عن الهدى جانح