للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان في مجلس إسماعيل بن إسحاق القاضي، فدخل رجل ومشى على رجله فصاح؛ فقال: بسم الله! قال: القصاب يذبح ويقول: بسم الله.

وكان يوماً على بابه فمر به رجل فسلم عليه وقام يمشي معه. فقال: لا تعن يا أبا عبد الله. فقال: ما عنى من أبعدك عن داره! وقال له المتوكل: لا تكثر الوقيعة في الناس. قال: إن لي في بصري لشغلاً. قال: ذاك أشد لحنقك على أهل العافية.

وقال له المتوكل يوماً: هل رأيت طالبياً قط حسن الوجه؟ قال: يا أمير المؤمنين، ما رأيت أحداً يسأل أعمى عن هذا! قال: لم تكن ضريراً فيما سلف، وإنما سألتك عما تقدم. قال: نعم! رأيت ببغداد منذ ثلاثين سنة فتى ما رأيت أجمل منه، ولا ألطف شمائل. فقال المتوكل: نجده كان مؤاجراً وكنت تقود عليه. فقال أبو العيناء: معاذ الله يا أمير المؤمنين أتراني أترك موالي، وأقود على الغرباء! فقال له المتوكل: اسكت يا مأبون. فقال له: مولى القوم منهم.

وكان ولاء أبي العيناء لأبي العباس، فقال المتوكل: قاتله الله! أردت أن أشتفي منه فاشتفى مني.

وقال له مرة: كيف أصبحت يا أبا عبد الله؟ قال: في داء يتمناه الناس.

قيل له: وكم سنك؟ قال: قبضة. يريد ثلاثاً وتسعين سنة.

ويقال: إن جده الأكبر لقي علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأساء مخاطبته، فدعا عليه وعلى ولده بالعمى، فكل من عمي منهم فهو صحيح النسب. وكان قبل العمى أحول.

قال: ذكرت لبعض القينات فاستظرفتني واستحسنتني على السماع؛ فلما رأتني استقبحتني فقلت لها:

وشاطرة لما رأتني تنكّرت ... وقالت قبيح أحولٌ ما له جسم

فإن تنكري مني احولالاً فإنني ... أريبٌ أديب لا غبيٌّ ولا فدم

فقالت: أنا لم أردك لأوليك ديوان الزمام.

[أبو العيناء مع المتوكل]

وهذا مجلس له مع المتوكل من طريق الصولي، وله مجالس يدخل الرواة بعضها في بعض. قال الصولي: حدثني أبو العيناء قال: أدخلت على المتوكل، فدعوت له وكلمته فاستحسن كلامي، وقال: بلغني أن فيك بذاء. قلت: يا أمير المؤمنين؛ إن يكن الشر الذي بلغك عني ذكر المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، فقد زكى الله تعالى وذم؛ فقال: نعم العبد إنه أواب. وقال: هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم. وقال الشاعر:

إذا أنا لم أمدح على الخير أهله ... ولم أذمم الجبس اللئيم المذمّما

ففيم عرفت الخير والشرّ باسمه ... وشقّ لي الله المسامع والفما

وإن كان الشر الذي بلغك عني كفعل العقرب الذي تلدغ النبي والذمي بطبع لا بتمييز؛ فقد صان الله عبدك عن ذلك. قال: بلغني أنك رافضي. قال: وكيف أكون رافضياً وبلدي البصرة، ومنشئي في مسجد جامعها، وأستاذي الأصمعي. وليس يخلو القوم إن كانوا أرادوا ديناً أو دنيا، فإن كانوا أرادوا الدين فقد أجمع المسلمون على تقديم من أخروا وإيمان من كفروا؛ وإن كانوا أرادوا الدنيا فأنت وآباؤك أمراء لا دين إلا بكم، ولا دنيا إلا معكم. قال: فكيف ترى داري هذه؟ قال: رأيت الناس بنوا دارهم في الدنيا، وأنت بنيت الدنيا في دارك. قال: فما تقول في عبيد الله بن يحيى؟ قال: نعم العبد لله ولك، مقسم بين طاعته وخدمتك، يؤثر رضاك على كل فائدة، وما عاد بصلاح ملكك على كل لذة. قال: قد أردتك لمجالستي. قال: أنا رجل محجوب وقد تقدم هذا قال: فوصلني بعشرة آلاف درهم.

وكان نجاح بن سلمة قد ضمن الحسن بن مخلد وموسى بن عبد الملك بمال عظيم للمتوكل؛ فاحتال عبيد الله بن يحيى حتى يضمناه بذلك وعاد عليه الأمر، ثم اغتال موسى بن عبد الملك فقتله، فبلغ الأمر المتوكل، فأكبره وهم بالإيقاع بموسى، فتلطف عبيد الله بن يحيى وعمه الفتح بن خاقان حتى سكن غضبه، واتفق ذلك في ولادة المعتز فاشتغل باللهو والسرور بذلك، فدخل أبو العيناء بعد ذلك على المتوكل، وكان واجداً على موسى بن عبد الملك؟ فقال: ما تقول في نجاح بن سلمة؟ قال: ما قاله الله عز وجل: فوكزه موسى فقضى عليه. واتصل بذلك بموسى فلقيه عبيد الله بن يحيى. فقال: أيها الوزير، أردت قتلي فلم تجد حيلةً إلا إدخال أبي العيناء على أمير المؤمنين مع عداوته لي؛ فعاتب عبيد الله أبا العيناء على ذلك فقال: ما استعذبت الوقيعة فيه حتى ذممت سريرته فيك، فأمسك عنه.

<<  <   >  >>