للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قلت أنا: وولي القاهر محمد بن المعتضد والراضي أبو العباس بن المقتدر والمتقي أبو إسحاق بن المقتدر والمستكفي والمطيع الفضل بن جعفر المقتدر والطائع أبو بكر عبد الكريم بن المطيع وهو السادس فخلع. وولي بعده أبو العباس القادر وهو الخليفة في هذا الزمان، وكان الإرجاف في أول ولاية المقتدر شديداً من الخاصة والعامة، فلما قتل العباس وزيره أخذ محمد بن داود بن الجراح البيعة على الناس لعبد الله بن المعتز، ووجه إلى القضاة والعدول، فاجتمع من القواد وغيره زهاء خمسة آلاف سوى الأتباع، فأظهر لهم محمد بن داود عبد الله بن المعتز، وكتب كتاباً خلع فيه المقتدر، واحتج بأن إمامته لا تجوز لقصوره من بلوغ الحلم وصغره عن الخلافة، واستحقاق عبد الله إياها لكماله وحنكته ومعرفته في أمور المسلمين وعلمه بشرائع الدين، فشهد العدول على ما في الكتاب ومن حضر من أشراف بغداد، وبايعوا ابن المعتز ولقبوه المنتصف، ويقال الراضي، ويقال القائم بالحق، وتقلد ابن الجراح الوزارة، وتكلم عبد الله بن المعتز وذكر المقتدر وأنه لا صلاة للناس معه ولا حج ولا غزو. وقال: قد آن للحق أن يتضح، وللباطل أن يفتضح، وقام وكيع فقرظه وذكر محاسنه وذكر شعر أبي العتاهية في هارون الرشيد وهو:

أتته الخلافة منقادةً ... إليه تجرّر أذيالها

فلم تك تصلح إلاّ له ... ولم يك يصلح إلاّ لها

ولو رامها أحدٌ غيره ... لزلزلت الأرض زلزالها

ولم يبق في دار المقتدر حينئذ إلا نفر يسير، وهر بعضهم إلى ابن المعتز، فسعى مؤنس الخازن وسوسن في نقض هذا العقد في اليوم الثاني، وجددا للناس بيعة المقتدر، وأخرجا الأموال فزادا في الأعطية، فانجفل الناس إليهما، ولم يبق مع ابن المعتز أحد؛ فهرب إلى دار ابن الجصاص، وهذا خبر طويل ليس هذا موضع استقصائه. ثم خلع المقتدر بعد ذلك وقتل في الحرب، ولم يقتل في الإسلام خليفة بين الصفين غيره.

ولما ظهر ابن المعتز ميتاً رثاه الناس؛ فقال ابن بسام:

لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب

ما فيه لوٌّ ولا ليت فتنقصه ... وإنما أدركته جرفة الأدب

وطولب ابن الجصاص بالتجائه إليه، وأراد المقتدر قتله. فقال: يا أمير المؤمنين؛ إنه ابن عمك، وقد لجأ إلى داري، وأنا غائب عنها، فكتمت أمره لعل رأيك يحسن فيه، ولست بمضاد في خلافة ولا قادح في مملكة، وقتلي لا ينفعك؛ وفي حياتي لك فائدة. قال: وما فائدة حياتك؟ قال: أدفع إليك كل يوم ألف دينار؛ فترك ووفى في ذلك مدة.

[رثاء ابن بسام لابن المعتز]

وقد استحسن لابن بسام رثاؤه لابن المعتز على سوء رأيه فيه ومهاجاته له.

[كتاب للبديع في مرض الخوارزمي]

وقد أحسن بديع الزمان في هذا المعنى كل الإحسان، وقد كتب إليه إبراهيم بن أحمد بن حمزة يهنئه بمرض أبي بكر الخوارزمي وكان بينهما من المهاجاة والمهاترة والمنازعة والمنافرة ما يطول به الشرح: الحر أطال الله بقاءك لا سيما إذا عرف الدهر معرفتي، ووصف أحواله صفتي، إذا نظر علم أن نعم الدهر ما دامت معدومة فهي أماني، فإذا وجدت فهي عواري، وأن محن الأيام وإن مطلت فتستنفد، وإن لم تصب فكأن قد؛ فكيف يشمت بالمحنة من لا يأمنها في نفسه، ولا يعدمها في جنسه. والشامت إن أفلت فليس يفوت. وإن لم يمت فسوف يموت، وما أقبح الشماتة بمن أمن الإماتة، فكيف بمن يتوقعها بعد كل لحظة، وعقيب كل لفظة، والدهر غرثان طعمه الخيار، وظمآن شربه الأحرار. فهل يشمت المرء بأنياب آكله، أو يسر العاقل بسلاح قاتله؟ وهو الفاضل شفاه الله، وإن ظاهرنا بالعداوة قليلاً، فقد باطناه وداً جميلاً، والحر عند الحمية لا يصطاد، ولكنه عند الكرم ينقاد، وعند الشدائد تذهب الأحقاد؛ فلا تتصور حالي إلا بصورتها من التوجع لعلته، والتحزن لمرضته، وقاه الله المكروه، ووقاني الله سماع المكروه فيه.

الخوارزمي رافضي

<<  <   >  >>