للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وكان سبب موته أنه كان منقطعاً إلى القاسم بن عبيد الله بن وهب؛ وكان القاسم مغرماً بشعرهن مستظرفاً له، محسناً إليه. فقال له أبوه: قد أردت أن أرى من روميك هذا؟ فأحضره وحضر أبوه، فلما انفض المجلس قال له: كيف رأيته؟ قال: أرى ما يسوءني ولا يسرني، أرى رجلاً صحيح الشعر، سقيم العقل، ومثل هذا لا تؤمن بوادره؛ وأقل غضبة يغضبها تبقي في أعراضنا ما لا يغسله الدهر، والرأي إبعاده، قال: وكيف ذلك بعد اتصاله؟ أخاف أن يظهر ما أضمره، قال: يا بني؛ اتبع فيه قول أبي حية:

يقلن لها في السرّ هديك لا يرح ... صحيحاً وإلاّ تقتليه فألمم

فأخبر القاسم بقول أبيه ابن فراس، وكان أشد الناس عداوةً لابن الرومي. فقال: إنما أشار عليك باغتياله، وأنا أكفيك أمره، فسم له لوزينجة وقدم له الجام وهي في أعلاه، فلما تناولها أحس بالموت ونهض قائماً. فقال له: إلى أين يا أبا الحسن؟ قال: إلى حيث أرسلتني. قال: اصرفوه، فقد غلب عليه السكر؛ فخرج وهو لما به؛ فلقي الناجم فقال:

أبا عثمان أنت عميد قومك ... وجودك للعشيرة دون لؤمك

تمتّع من أخيك فما أراه ... يراك ولا تراه بعد يومك

وكان شديد التغير، سريع الانقلاب، ضيق الصدر، قليل الصبر، مفرط الطيرة غالياً فيها، وكان عظيم التخوف، كثير التجسس؛ يراه من يلقاه كالمتوجس المذعور.

[شدة خوفه]

ذكر بعض أصحابه قال: كنت أسايره ونحن سائرون، فلم أنشب أن تراءيته قد ترجل عن دابته بسرعة، ولجأ إلى بعض الدكاكين وأسلم الدابة؛ فأمرت من أمسكها وأتيت إليه فقلت: ما بالك يا أبا الحسن؟ وإذا هو يضطرب اضطراباً شديداً؛ فأمسكت عنه حتى سكن وقام فركب الدابة. فقلت له: ما الذي هاجك؟ قال: أما ترى ذاك؟ وإذا برجل من العامة يحمل ذوبينا وهي عصا في طرفها حديد بشعبتين. فقلت: أراه. فقال: أوما ترى البركار الذي بيده، ما يؤمنني أن يلويه على عنقي فيفتله.

وحكي عنه: أنه سأل الموفق أو غيره في قدح محكم رآه فأعجبه فوهبه إياه. قال بعض إخوانه: وكنت معه، وقد خرج من دار السلطان، فوضعه على رأسه ثم أزاله بسرعة ثم وضعه على ركبته، ثم رمى به فكسره. فقلت له: ما هذا الخاطر الفاسد؟ قال: وصل إلي هذا القدح وما على وجه الأرض أحب إلي منه، فوضعته على أشرف أعضائي! ثم ذكرت قول بعض الحكماء: إن الصاعقة إذا قابلت الشيء الشفاف انحدرت إليه، فخفت أن تقع علي صاعقة فتهلكني، ثم وضعته على ركبتي، فخفت أن تصدمني دابة فينكسر فيدخل في جسمي فيكون سبب علة مزمنة، وخفت أن يكون الذي دعاني إلى طلبه ما أراده الله بي، فرأيت الراحة في كسره.

[حكايات عن تطيره]

وكان أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش غلام أبي العباس المبرد في أيام ابن أبي أوفى شاباً مترفاً، وأديباً مستظرفاً، وكان يعبث به فيقرع عليه الباب. فيقال له: من بالباب؟ فيقول: قولوا لأبي الحسن: مرة بن حنظلة؛ فيتطير لقوله ويقيم أياماً لا يخرج من داره، وكان ذلك سبب هجائه إياه.

وقرع عليه الباب يوماً وقيل: إن البحتري وجه إليه من قرع عليه بابه فقال: من هذا؟ فقال: سخطة الحي القيوم، والمهل والغسلين والزقوم، والشيطان الرجيم، وكل بلاء كان أو يكون، إلى يوم الدين؛ فأقام مدةً لم يخرج، فسأل عنه الموفق، فقيل: هو في حبس البحتري!

<<  <   >  >>