للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلا قلت: كيف لو رأت ليلى أخانا، فتعلم أين دعواها من دعوانا. ولا أنشدت قول أبي السعلاء في الرشيد:

أغيثاً تحمل الناق ... ة أم تحمل هارونا

أم الشمس أم البدر ... أم الدنيا أم الدينا

فإني والله أتعجب حين قاله في غيرك، كيف لم ترم جهنم بشرارها، والشياطين بأحجارها، وأعجب من قول من قال في معن بن زائدة:

مسحت معدّ وجه معنٍ سابقاً ... لما جرى وجرى ذوو الأحساب

كيف يسبق غيرك في حلبة وأنت في عدادها، أم كيف يكون غيرك سابق جيادها؟ أنت أيدك الله بين هؤلاء الشعراء مرحوم مظلوم، سلبوك علاك وهي حلاك، ونحلوها قوماً سواك، والمدح الكاذب ذم، والبناء على غير أساس هدم.

وهي طويلة جداً، مر له فيها إحسان كثير. وإنما احتذى في أثرها مثال رسالة أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ لأحمد بن عبد الوهاب المعروفة برسالة الطول والعرض وتعرف برسالة التوسع والتدوير ورسالة المفاكهات، واتبع أيضاً طريق أبي الفضل بن العميد في رسالته لابن سمكة النحوي.

[بين الخوارزمي والبديع]

وقد جمع بديع الزمان جوامع ما جرى بينه وبينه في كتاب أنفذه إلى بعض الأشراف، أنا أكتب منه ها هنا قطعة على اختصار، وهو وإن كان طويلاً فليس مملولاً، لما ألبسه من حلل البلاغة، وحلل البراعة، وجدته في الآذان، وحلاوته في الأذهان؛ وفيه أنواع تنفتح لها الأسماع، وتنشرح لها الطباع، مما ألف هذا الكتاب له من الملح الظريفة، والفكاهات الشريفة.

وأولها: سأل السيد أمتع الله ببقائه إخوانه أن أملي جوامع ما جرى بيننا وبين أبي بكر الخوارزمي أعزه الله من مناظرة مرة، ومنافرة أخرى، وموادعة أولاً، ومنازعة ثانياً، إملاء يجعل الأسماع له عياناً؛ فتلقيته بالطاعة، على حسب الاستطاعة، ولكن للقضية سبب لا تطيب إلا به، ومقدمات لا تحسن إلا معها، وسأسوق بعون الله صدر حديثنا إلى النجز، كما يساق الماء إلى الأرض الجرز: وأولها: إنا وطئنا خراسان، فما اخترنا إلا نيسابور داراً، وإلا جوار السادة جواراً، لا جرم إنا حططنا بها الرحل، ومددنا عليها الطنب، وقديماً كنا نسمع بحديث هذا الفاضل فنتشوقه، ونخبر به ونخبره على الغيب فنتعشقه، ونقدر أنا إذا وطئنا أرضه، ووردنا بلده، يخرج لنا في العشرة على القشرة، وفي المودة عن الجلدة، فقد كانت كلمة الغربة جمعتنا، ولحمة الأدب نظمتنا، وقد قال شاعر القوم غير مدافع.

أجارتنا إنّا غريبان ها هنا ... وكلّ غريبٍ للغريب نسيب

فأخلف ذلك الظن كل الإخلاف، واختلف ذلك التقدير كل الاختلاف، وقد كان اتفق علينا في ذلك الطريق من العرب اتفاق، لم يوجبه استحقاق، من بزة بزوها، وفضة فضوها، وذهب ذهبوا به. ووردنا نيسابور براحة أنقى من الراحة، وكيس أخلى من جوف حمار، وزي أوحش من طلعة المعلم، بل اطلاعة الرقيب، فما حللنا إلا قصبة جواره، ولا وطئنا إلا عتبة داره، هذا بعد رقعة قدمناها، وأحوال أنس نظمناها؛ فلما أخذتنا عينه، سقانا الدردي من أول دنه، وأجنانا سوء العشرة من باكورة فنه، من طرف نظر بشطره، وقيام دفع في صدره، وصديق استهان بقدره، وضيف استخف بأمره؛ لكنا أقطعناه جانب أخلاقه، ووليناه خطة رأيه، وقاربناه إذ جاذب؛ وواصلناه إذ جانب، ولبسناه على خشونته، وشربناه على كدورته، ورددنا الأمر في ذلك إلى زي استغثه، ولباس استرثه، وكاتبناه نستلين قياده، ونستميل فؤاده، ونقيم مناده، بما هذه نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم الأستاذ أبو بكر والله يطيل بقاءه، أزرى بضيفه إذ وجده يضرب إليه آباط القلة، في أطمار الغربة؛ فأعمل في ترتيبه أنواع المصارفة، وفي الاهتزاز له أصناف المضايقة، من إيماء بنصف الطرف، وإشارة بشطر الكف، ودفع في صدر القيام، ومضغ للكلام، وتكلف لرد السلام.

وقد قبلت ترتيبه صعراً، واحتملته وزراً، واحتضنته نكراً، وتأبطته شراً، ولم آله عذراً، فإنما المرء بالمال، وثياب الجمال، ولست مع هذه الحال، وفي هذه الأسمال، أتقذر صف النعال. فلو أني صدقته العتاب، وناقشته الحساب، لقلت: إن بوادينا ثاغية صباح، وراغية رواح، وناساً يجرون المطارف، ولا يمنعون المعارف:

وفيهم مقاماتٌ حسانٌ وجوههم ... وأنديةٌ ينتابها القول والفعل

<<  <   >  >>