للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

قال أبو العيناء: أنا أول من أظهر العقوق بالبصرة لوالديه. قال أبي: إن الله قد قرن طاعته بطاعتي؛ فقال: " اشكر لي ولوالديك ". فقلت: يا أبت؛ إن الله أمنني عليك ولم يأمنك علي. فقال: " ولا تقتلوا أولادكم خشيةَ إمْلاَق نحن نرزقكم وإياهم ".

وقال أعرابي لأبيه: يا أبت، إن كبير حقك علي لا يبطل صغير حقي عليك، والذي تمت به إلي أمت بمثله، ولست أزعم أنا سواء ولكن لا يحل الاعتداء.

[ابناك كعينيك]

وحكى أبو الحسن محمد بن جعفر بن لنكك البصري عن أبيه أنه جاور ببغداد في أيام المقتدر رجلاً من جلة الكتاب، ونشأ له ولدان فتنا بغداد بحسنهما، فبلغ الأكبر منهما، فنقله من المكتب إلى الديوان، وأراد أن يحصنه بجارية فابتاعها له بألف دينار، وقال: لا تعلم أخاك فإنه يصغر عن ذلك، فنمت داية الأصغر الأمر إليه، وقالت: إن أباك خص أخاك بشيء دونك. فقال لها: بم خصه؟ قالت: بجارية. قال: هو إليها أحوج وأنا عنها أغنى، غير أني أشفق أن يتسع الخرق، وما علمت أنه فضل مذ نشأ علي بشيء، وأنا أجله عن المشافهة، ولكن هاتي دواة، فكتب إليه:

ليس لي بعد إلهي ... مشتكى إلاّ إليكا

وأخي في الفضل مثلي ... وكلانا في يديكا

لا تفضّله عليّ ... بالحبا من ناظريكا

إنما ابناك كعيني ... ك فداوي مقلتيكا

إن أذقت العين كحلاً ... هاجت الأخرى عليكا

فابتاع له جارية بثمن جارية أخيه وأنفذها إليه.

[بخور غير طائل]

وحضر أبو الحسن بن لنكك عند أبي الفتح نصر بن أحمد الخبزأرزي فبرخه ببخور غير طائل فقال:

تبصّر في فؤادي فضل حبٍّ ... يفوق به على كلّ الصحاب

أتيناه فبخّرنا بشيءٍ ... من السقف المدخّن بالتهاب

فقمت مبادراً وحسبت نصراً ... يريد بذاك طردي أو غيابي

فقال متى أراك أبا حسين؟ ... فقلت له إذا اتّسخت ثيابي

[بين أبي علي البصير وأبي العيناء]

قال أبو علي البصير لأبي العيناء: في أي وقت ولدت من النهار؟ قال: طلوع الشمس. قال: فلذلك خرجت مكدياً؛ لأنه وقت انتشار المساكين. فقال له أبو العيناء: بيني وبينك مناسبة العمى، قال: كلا! إني من عميان الدواب، وأنت من عميان العصا.

بلغت أبا علي البصير عن أبي العيناء قوارص بظهر الغيب؛ فكتب إليه: أستزيد الله في بقائك؛ وأستمتعه بإخائك، وأستحفظه النعمى عندك. رب مزح أعزك الله قد بعث جداً، وجور قد أحدث قصداً، ورب أمر صغير خطره، قد أعقب أمراً كبيراً آخرهن ونحن باستزادتنا بعهدك، ومحاماتنا على ودك، وتمسكنا بعرى الأسباب التي بيننا وبينك، واحتراسنا من جناية الدهر علينا فيك، لا نقتصر على الاستظهار بالحجة، والإبلاغ في المعذرة، دون استفراغ المجهود، وبلوغ الغاية في التأني، والحيلة في استرجاع ما شذ عنا منك، وإبطال ما نمت به الأخبار إلينا عنك، من تحليك بنا في العيب، وتناولت إيانا في الغيب، فلا يزال أخ لك مد الله في عمرك تعد له، على نفسك، وثوقه لك وعليك، قد ساقط إلي أحاديث عنك بطبائعها صلاح القلوب قليلاً بها بقاء المودة، سريعة في حل عقدتها وقطع مودتها، أحاديث، أكره لنفسي بدأها ولك عاقبتها، وكنت لا أزال أرد ما يرد علي منها بتأول لفظك وحسن الظن بمعناك، والتماس العذر لك على ضيق مخرجه، وصعوبة مطلبه؛ وأغلب رأيي لهواك، وأقف غضبي على عتباك، وأحفظ قصدك إلي متنصلاً بما بلغني عنك؛ إلى حرم بيني وبينك، لا يجب حفظها علي دونك، حتى عاد تعريضك تصريحاً، وتمريضك تصحيحاً، وفي نسبته في صحتي إلى العمى، وفي حلمي إلى الضعف، إلى أن يئس الصديق من نصري، لما رأى من إغضائي في أمر نفسي، وقد بقي مع فضلة من أداتي أنت تملكها دوني، فإن صنتها لي ووفرتها على من أساء الاختيار؛ ولا أعدم أنصاراً من الأحرار، أسعد بمؤازرتهم ومكاشفتهم، وأستغني بنفسي عنهم.

وقد كتبت في هذا المعنى بأبيات هي لما قبلها ولما يكون بعدها، فرأيك في تفهمها نفعك الله بها:

أبلغ أبا العيناء إن لاقيته ... قولاً يكون لدائه حسما

نبئت أنّك في المغيب تسبّني ... وإذا التقينا كنت لي سلما

<<  <   >  >>