للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

يقول لي الخلاّن لو زرت قبرها ... فقلت: وهل غير الفؤاد له قبر

على حين لم أحدث فأجهل فقدها ... ولم أبلغ السنّ التي معها صبر

وهذا مأخوذ من قول أبي مسلم عبد الرحمن بن سلم، في فصل من كتاب كتبه إلى عبد الله بن علي عند محاربته إياه، لما خلع أبا جعفر المنصور: لأنزلنك موارد ضيقة، حتى أبدلك بالحلاوة علقماً، تمج من تمطقها دماً؛ أمنت صولتي، وقد كبرت عن صغر، وصغرت عن كبر، فأنا كما قال الأول:

وهل يخشى وعيد الناس إلاّ ... كبير السنّ والضّرع الصغير

[شراب عتيق من محمد بن عبد الملك]

قال ابن حمدون النديم: أهدى إلينا محمد بن عبد الملك ونحن بالبدندون شراباً عتيقاً وكتب رقعة فيها:

ما إن ترى مثلي أخاً ... أندى يداً وأدرّ جودا

أسقي الصديق ببلدةٍ ... لم يسق فيها الماء عودا

صفراء صافية كأ ... نّ على جوانبها العقودا

فإن استقلّ بشكرها ... أوجبت بالشكر المزيدا

فإذا خشيت على الصني ... عة بالتقادم أن تبيدا

أنشأت أخرى غيرها ... فتركتها غضّاً جديدا

خذها إليك كأنما ... كسيت زجاجتها فريدا

واجعل عليك بأن تقي ... م بشكرها أبداً عهودا

[الملك مضطر إلى كفاية منه]

وكان المعتصم أمر بأن يعطى الواثق عشرة آلاف درهم، يستعين بها على أمره ويصلح بها ما يحتاج إلى إصلاحه، فدافعه بذلك مدافعةً متصلة أحوجته إلى شكايته إلى المعتصم؛ فأنكر عليه تأخر المال. فقال: يا أمير المؤمنين، العدل أولى بك وأشبه بقولك وفعلك، ولك عدة أولاد أنت في أمرهم بين خلتين؛ إما أن تسوي بينهم في العطية فتجحف ببيت المال، وإما أن تخص بعضهم فتحيف على الباقين. فقال: قد رهنت لساني فما تصنع؟ قال: تأمر لباقي ولدك بإقطاعات وصلات، وتطلق لهارون صدراً من المال، فأدافعه بباقيه ويتسع الأمير قليلاً، وتدبر الأمر بعد ذلك بما تراه.

فقال له: وفقك الله فما زلت أعرف الصواب في مشورتك؛ وتأدى الخبر إلى هارون، فحلف بعتق عبيده ومماليكه، وبحبس عدة خيل ووقف عدة ضياع، وصدقة مال جليل، لئن ظفر بمحمد ليقتلنه؛ وكتب اليمين بخطه وجعلها في درج وأودعها دابته.

ومرت مدة وأفضى الأمر إلى هارون، وكان ذا أنات وعقل. وكره أن يعاجله فيقول الناس بادر بشفاء غيظه؛ ثم عزم على الإيقاع به، فتقدم بأن يجمع له من وجوه الكتاب من يصلح لولاية الدواوين والوزارة فجمعوا، ودعا بواحد منهم؛ وقال له: اكتب كذا في أمر رسمه له. فاعتزل وكتب وعرض الكتاب عليه فلم يرضه حتى امتحن الجميع، فأمر حاجبه فقال: أدخل من الملك مضطر إليه: محمد ابن عبد الملك، فجيء به وهو واجم مضطرب؛ فلما وقف قال له: اكتب إلى صاحب خراسان في كذا وكذا. فأخرج من كمه نصفاً ومن خفه دواةً، وابتدأ يكتب بين يديه حتى فرغ من الكتاب، ثم أخرج خريطةً فيها حصى فأترب الكتاب وأصلحه وتقدم فناوله إياه، فوجده قد أتى على جميع ما في نفسه؛ فأعجب به جداً. وقال: اختمه فأخرج من الخريطة طيناً فوضعه عليه وتناوله فختمه وأنفذه من ساعته.

فقال هارون لخادم له: امض إلى دابتي وقل لها: توجه إلي بالدرج الفلاني؛ فمضى الخادم فجاء به، فأخرج الرقعة فدفعها إليه. فقال: يا أمير المؤمنين؛ أنا عبد من عبيدك، إن وفيت بيمينك فأنت محكم، وإن كفرت وصفحت كان أشبه بك. قال: لا والله! ما يمنعني من الوفاء بيميني إلا النفاسة على أن يخلو الملك من مثلك، وأمر بعتق من حلف بعتقه، ووقف الضياع، وحبس الخيل، وأنفذ صدقة المال.

<<  <   >  >>