للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كما حكى الجاحظ عن الشرقي بن القطامي أن ابن أبي عتيق لقي عائشة رضي الله عنها على بغلة. فقال: إلى أين يا أماه؟ فقالت له: أصلح بين حيين تقاتلا، فقال: عزمت عليك إلا ما رجعت، فما غسلنا أيدينا من يوم الجمل حتى نرجع إلى يوم البغلة.

وهذه حكاية أوردها الشرقي لغله ودغله على وجه النادرة؛ لتحفظ ويضحك منها، ويتعلق بها من ضعف عمله، وقل عزمه؛ فيكون ذلك أنجع وأنفع لما أراد من التعرض لعرض أم المؤمنين رضي الله عنها.

ومثل هذا كثير مما لو ذكرته لدخلت فيما أنكرته. فقد قيل: الراوية أحد الشاتمين، كما قيل: السامع أحد القائلين.

وقد قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وقد مر به عمر بن عبد العزيز والقاسم بن محمد بن أبي بكر فلم يسلما عليه:

مساء تراب الأرض منها خلقتما ... فيها المعاد والرجوع إلى الحشر

ولا تعجبا أن ترجعا فتسلّما ... فما حشي الإنسان شرّاً من الكبر

وقال آخر:

إن كنت لا ترهب ذمّي لما ... تعرف من صفحي عن الجاهل

فاخش سكوتي إذ أنا منصت ... فيك لمسموع خنا القائل

فسامع السوء شريكٌ له ... ومطعم المأكول كالآكل

ومن دعا الناس إلى ذمّه ... ذمّوه بالحقّ وبالباطل

مقالة السوء إلى أهلها ... أسرع من منحدرٍ سائل

وقد رام ابن قتيبة تسهيل السبيل في مثل هذا، فقال: مهما مر بك من كلام تنفر عنه نفسك، فلا تعرض عنه بوجهك، فالقول منسوب إلى قائله، والفعل عائد إلى فاعله.

قلت: وليت شعري ما اللذة فيما يضحك منه من هو معرض عنه، إلا أن يدخل في حد المستهزئين، وحيز المتلاعبين. نعوذ بالله من الحور بعد الكور.

وأنشد أبو نواس الجماز شعراً من أعابيثه ومجونه كفر فيه، وقال للجماز: أين أنت من أهل الطراز؟ قال: أنا لا أتعرض لمن أعضائي جنده يحرك علي منها ساكناً أو يسكن متحركاً فأهلك.

وقد طرد الجماز أصله في التحرز مما تعلق عليه من شناعة، أو تلزمه فيه بباعة، فقال يمدح:

أقول بيتاً واحداً أكتفي ... بذكره من دون أبيات

إنّ عليّ بن أبي جعفر ... أكرم أهل الأرض من آت

فقد سلم مما كاد يقع فيه أبو الخطاب عمرو بن عامر السعدي، وقد أنشد موسى الهادي:

يا خير من عقدت كفّاه حجزته ... وخير من قلّدته أمرها مضر

فانقلبت عيناه في رأسه، واحمر وجهه، وقال: إلا من؟ ويحك! ولم يكن أبو الخطاب استثنى أحداً، وإنما جرى على مذهب الشعراء في تفضيل الممدوح على أهل العصر؛ فلما رأى ما بوجه الهادي من إرادة الإيقاع به قال ارتجالاً:

إلاّ النبيّ رسول الله إنّ له ... فخراً وأنت بذاك الفخر تفتخر

فسري عنه ووصله.

[تدرج الكتاب ولذة الانتقال من حال إلى حال]

وقد جعلت ما عملت مدبجاً مدرجاً، لتلذ النفس بالانتقال من حال إلى حال، فقد جبلت على محبة التحول، وطبعت على اختيار التنقل.

وقد قيل: إن عبد الله بن طاهر لما أسر نصر بن شبث بكيسوم، وأنفذه إلى المأمون، جلس مجلساً أنصف فيه من وجوه القواد، ومن أمراء الأجناد، وضرب الأعناق، وقطع الأيدي، ورد كبار المظالم، ثم قام وقد دلكت الشمس؛ فتلقاه الخدم، فأخذ هذا سيفه، وهذا قباءه، هذا إزاره. فلما دخل دعا بنعل رقيقة فلبسها، ثم رفع ثوبه على عاتقه وتوجه نحو البستان وهو يتغنى:

النّشر مسك والوجوه دنا ... نير وأطراف الأكفّ عنم

قال عيسى بن يزيد: وكنت جرياً عليه، فجذبت ثوبه من عاتقه وقلت له: أتقعد بالغداة قعود كسرى أو قيصر أو ذي القرنين، ثم تعمل الساعة عمل علويه ومخارق؟ فرد ثوبه على عاتقه وهو يقول:

لا بدّ للنفس إن كانت مصرّفة ... من أن تنقّل من حالٍ إلى حال

قال أبو القاسم بن جدار: كأنه ذهب إلى ما فعله أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حين قام من بعض مجالسه الجليلة التي كان يدون فيها الدواوين ويمصر الأمصار، ويقمع الأعداء، ويؤيد الإسلام، فدخل منزله ثم رفع صوته وهو يقول:

وكيف ثوائي بالمدينة بعدما ... قضى وطراً منها جميل بن معمر

<<  <   >  >>