للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وهي مكنونةٌ تحيّر منها ... في أديم الخدّين ماء الشباب

ثم قالوا تحبّها قلت بهراً ... عدد الرمل والحصى والتراب

من رسولي إلى الثريّا بأني ... ضقت ذرعاً بهجرها والكتاب

فلما سمع هذا البيت قال: إياي أراد وبي هتف ونوه؛ والله لا ذقت طعاماً أو أشخص إليها وأصلح بينهما.

قال مولى لبني تميم: فنهض ونهضت معه حتى خرج إلى سوق الضمرتين، فأتى قوماً من بني الديل من حنيفة يكرون النجائب، فقال: بكم تكرونني راحلتين إلى مكة؟ قالوا: بكذا وكذا، فقلت لبعض التجار: استوضعوا شيئاً؛ فقال ابن أبي عتيق: ويحك! إن المكاس ليس من أخلاق الناس، ثم ركب واحدة وركبت الأخرى وأجد السير، فقلت: ارفق بنفسك. فقال: ويحك: أبادر حبل الوصل أن يقتضبا وما أملح الدنيا إذا تم الوصل بين عمر والثريا. فقدمنا مكة، وأتى باب الثريا، فقالت: والله ما كنت لنا زواراً. قال: أجل! ولكني جئت برسالة؛ يقول لك ابن عمك عمر: ضقت ذرعاً بهجرك والكتاب. فلامه عمر. فقال ابن أبي عتيق: إنما رأيتك مبادراً تلتمس رسولاً فخففت في حاجتك، فإنما كان ثوابي أن أشكر.

وسمع ابن أبي عتيق قول العرجي:

وما ليلةٌ عندي وإن قيل ليلة ... ولا ليلة الأضحى ولا ليلة الفطر

معادلة الإثنين عندي وبالحري ... يكون سواءً مثلها ليلة القدر

وما أنس م الأشياء لا أنس قولها ... لخادمها قومي سلي لي عن الوتر

فجاءت تقول الناس في تسع عشرة ... ولا تعجلي عنه فإنّك في أجر

فقال: هذه أفقه من ابن شهاب، وهي حرة لله عز وجل من مالي إن أجاز أهلها ذلك.

[مع الحسن بن علي]

وقال له مروان بن الحكم يوماً: إني مشغوف ببغلة للحسن بن علي، قال له: فإن دفعتها إليك أتقضي لي ثلاثين حاجةً؟ ومروان يومئذ أمير المدينة، قال: فإذا اجتمع الناس عندك في العشية فإني آخذ في مآثر قريش، فأمسك عن الحسن فلمني على ذلك. فلما أخذوا في مجالسهم أفاض في أولية قريش؛ فقال له مروان: أما تذكر أولية أبي محمد، وله في هذا ما ليس لأحد؟ فقال: إنما كنا في ذكر الأشراف ولو كنا في ذكر الأنبياء لقدمنا لأبي محمد. فلما خرج الحسن ليركب البغلة تبعه ابن أبي عتيق: فقال له الحسن وتبسم: ألك حاجة؟ قال: نعم! ذكرت البغلة؟ فنزل الحسن ودفعها إليه.

ومن ظريف أخباره أن عثمان بن حيان المري لما دخل المدينة والياً عليها اجتمع إليه الأشراف من قريش والأنصار. فقالوا: إنك لا تعمل عملاً أجدى ولا أولى من تحريم الغناء والرثاء. ففعل وأجلهم ثلاثاً، فقدم ابن أبي عتيق في الليلة الثالثة فحط رحله بباب سلامة الزرقاء، فقال لها: بدأت بك قبل أن أصير إلى منزلي. فقالت: أو ما تدري ما حدث؟ وأخبرته الخبر. فقال: أقيمي إلى السحر حتى ألقاه، ولا بأس عليك. ثم مضى إلى عثمان بن حيان فاستأذن عليه، وأخبره أن أجل ما أقدمه حب التسليم عليه، وقال له: من أفضل ما عملت به تحريم الغناء والرثاء. فقال: إن أهلك أشاروا علي بذلك. قال: فإنك قد وفقت، ولكني رسول امرأة إليك تقول: كانت هذه صناعتي فبنت منها، وأنا أسألك أيها الأمير ألا تحول بيني وبين مجاورة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال عثمان: إذاً أدعها لك. قال: إذاً لا تدعك الناس. ولكن تدعوها فتنظر إليها فإن كانت ممن يترك تركتها. قال: فادع بها. فأمرها ابن أبي عتيق فتقشفت وأخذت سبحة في يديها، وصارت إليه، فحدثته عن مآثر آبائه، ففكه لها. فقال ابن أبي عتيق: اقرئي للأمير، ففعلت فأعجب بذلك. فقال لها: فاحدي للأمير ففعلت، فأعجب بحدائها. ثم قال لها: غبري للأمير، فجعل يعجب بذلك، فقال له ابن أبي عتيق: فكيف لو سمعتها في صناعاتها؛ فقال: قل لها فلتقل! فأمرها فغنت:

سددن خصاص الخيم لمّا دخلنه ... بكلّ بنانٍ واضحٍ وجبين

فنزل عثمان عن سريره حتى جلس بين يديها، ثم قال: والله ما مثلك يخرج عن المدينة. فقال له ابن أبي عتيق: يقول الناس أذن لسلامة في المقام ومنع غيرها! فقال عثمان: قد أذنت لهم جميعاً.

<<  <   >  >>