للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وربما بلغ بلينه إلى الإضحاك كقوله:

عتّابة النّفس كاعبٌ شكله ... كحلاء بالحسن غير مكتحله

بالله هل تذكرين يا سكني ... وأنت لا تقصرين في الحجله

أيام كنّا ونحن في صغر ... نلعب هالا مهلهلا هلله

وهذا وإن قصد به الهزل فليس في حلاوة قول العباس:

لست أنسى مقالها لرسولي ... أبداً أو تضمّني أرماسي

هات قل لي كتاب من ذا فإني ... من في خيفةٍ وفي إيجاس

فنبذت الكتاب سرّاً إليها ... فتبدّى العنوان من عبّاس

فرمت بالكتاب زهواً وقالت ... ما بقى للقرود إلاّ الكراسي

ولا كملاحة قوله:

جارية أعجبها حسنها ... ومثلها في الخلق لم يخلق

عرّفتها أنّي محبٌّ لها ... فأقبلت تضحك من منطقي

وانصرفت نحو فتاةٍ لها ... كالرشأ الأغيد في قرطق

قالت لها قولي لهذا الفتى ... انظر إلى وجهك ثم اعشق

[من نوادر الجهلاء واللكن]

وكان بالرملة شيخ نظير لأبي بكر النابلسي في طريق الزهد، وكان ألكن اللسان؛ فنزل بعض الجند دار صديق له، فخاف طول مكثه، وأن تصير الدار نزلاً للجند، وسار بذلك إلى الشيخ، وسأله أن يبعث إليه من يعرفه بالرجل أنه من خاصته لينتقل عنها؛ فأنفذ معه رسولاً، ثم رأى الشيخ أن قيامه آكد فنهض فلحقه. فقام الجندي إليه؛ فقال: أيها الشيخ الجليل سيدي؛ أتاني رسولك، ولا والله أقيم أكثر من يومين ألتمس منزلاً وأنتقل. فقال الشيخ: نعم! يا سيدي وشهرين إذا شئت، وما هذا التضييق على نفسك؟ فقال صاحب الدار: والله أعزك الله لئن أقام بها عشرة أيام لتصيرن داري نزلاً. فقال: يا هذا، إنك إن تقول، إن هؤلاء، إنما أحب إليك أن يأتوا إلى دارك، لسبب ما، فليس الأمر كما زعمت. فقال: فسر لي أكرمك الله هذا الكلام، وأنا أهب له الدار.

وكان بالرملة أيضاً كاتب جاهل ألكن، فأرسل غلامه إلى الصوارف يبتاع له شراباً، فاشترى له ركوة شراب، وحملها على حمار وأتى الرملة. فقبض عليه أصحاب المصالح، فقالوا: زن درهماً، فامتنع، فأرجلوه عن الحمار فضربوه خمسين مقرعة، وأخذوا الشراب والحمار؛ فأتى مولاه فأخبره. فكتب إلى متولي النظر في أمرهم: أما بعد، فإن غلاماً، وإن حماراً، ألبسبله، فضرباه خمسين رطلاً في ركوة، فرأيك في إطلاق الحمار، وأبقاك.

وقال بعض إخوانه: كنت عند فاحتجم، فقال: ما عندي اليوم شراب نبيذ، فاجلس حتى أكتب إلى صديقي فلان يبعث لي بقنينة أشربها معك. فقلت له: أنت مطول في كتبك فاعمل على الاختصار. فكتب: أما بعد احتجمت قنينة والسلام، فقلت له: ولا هذا كله! ومثل هذا في الاختصار، قيل إن شاعراً مدح نصر بن سيار بقصيدة فيها مائة بيت كلها نسيب، وإنما المدح منها في بيتين. فقال له نصر: ما تركت معنى ظريفاً ولا نسيباً مليحاً إلا أوردته في نسيبك دون مدحك. فقال: غداً أغدو عليك بغير هذا؛ فغدا عليه بقصيدة أولها:

هل تعرف الدار لأم الغمر ... دع ذا وحبّر مدحةً في نصر

وكتب هذا الكاتب كتاباً إلى بعض إخوانه: اشتهيت وليس عندي إلا، وليس يحلو إلا من عندك، وهو الدمكسك أصلحك الله، يطرح الحشمة، فأرسل إلى ممسا منفصلاً والسلام.

أراد النمكسود وهو لحم يقطع طوابيق ويشد بالملح في ألواح وينشر حتى يذهب ماؤه وينشف؛ فإذا احتيج إلى شيء منه بل بالماء وأصلح؛ وإنما يستعمل كذا ليسافر به ولا يفسد. ولذا قال أبو العيناء: الزينبي نمكسود الخمر.

وكتب رجل إلى قاض في أمر قوم من جيرانه اختصموا: إن الذي لم يجر بينهما غير مفهوم، وقد أردت الاستصلاح فعاد استفساداً؛ فإن رأى القاضي أدام الله عزله أن يصفح عن كتابي فإن فيه نقصاً. فقال القاضي. لا، بل فيه زيادة لام، كفانا الله شرها.

[من معاريض الكلام]

ورثي قبران مكتوب على أحدهما: من رآني فلا يغتر بالدنيا، فإني كنت من ملوكها، أصرف الريح كيف شئت. وعلى الآخر مكتوب: كذب، إنما كان حداداً ينفخ بالزق.

وكان بالكوفة رجل باقلاني، فخرج الطائف ليلاً فأخذه سكران؛ فقال: من أنت؟ فقال:

أنا ابن الذي لا تنزل الدّهر قدره ... وإن نزلت يوماً فسوف تعود

<<  <   >  >>