للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وأبو العبر القائل في الجد:

ليس لي مال ولي كرمٌ ... فبه أقوى على عدمي

لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متّهم

قنعت نفسي بما رزقت ... وتمشّت في العلا هممي

ولبست الصبر سابغةً ... فهي من فرقي إلى قدمي

فإذا ما الدهر عاتبني ... لم تجدني كافر النعم

وله في الرقيق:

رقّ حتى يكاد خدّك يجري ... رقةً والجفون ترنو بسحر

يا قليل الشبه مستظرف الشك ... ل بديع الجمال مغرىً بهجر

كفّ عني الصدود يا واحد الحس ... ن فقد عيل من صدودك صبري

وله أيضاً:

أبكي إذا غضبت حتى إذا رضيت ... بكيت عند الرضا خوفاً من الغضب

فالموت إن رضيت والموت إن غضبت ... أنّى يرجّى سلوٌّ، عشت في تعب

وهذا قريب من قول فضل الشاعرة، وقيل سعيد بن حميد:

ما كنت أيام كنت راضيةً ... عني بذاك الرضا بمغتبط

علماً بأنّ الرضا سيتبعه ... منك التجنّي وكثرة السّخط

فكلّ ما ساءني فعن خلقٍ ... منك وما سرّني فعن غلط

هذا البيت الأخير كقول أبي العيناء، وقد سأله المتوكل عن ميمون بن إبراهيم صاحب ديوان البريد وكان يبغضه فقال: يد تسرق، مثله مثل يهودي سرق نصف جزيته، فله إقدام بما أدى، وإحجام بما بقي، إساءته طبيعة، وإحسانه تكلف.

[أبو محجن الثقفي وطرف من أدبه]

ولما مات أبو محجن الثقفي وقف رجل على قبره، فقال: رحمك الله أبا محجن! فوالله لقد كنت قليل المراء، جيد الغناء، غير نعاس، ولا عباس، ولا حابس للكاس.

واسم أبي محجن عروة بن حبيب، وكان فارساً شاعراً، وكان مشتهراً بالشراب كثيراً يقول فيه؛ فحده عمر رضي الله عنه مرات، ثم أخرجه إلى العراق، فشرب، فحده سعد بن أبي وقاص وسجنه في قصر العذيب، وكان سعد مريضاً في القصر، وأقام المسلمون في حرب القادسية أياماً، فوجهت الأعاجم قوماً إلى القصر ليأخذوا من فيه، فاحتال أبو محجن حتى ركب فرس سعد من غير علمه فخر فأوقع بهم؛ فرآه سعد، فلما انصرف بالظفر خلى سبيله. وقال: لا أضربك بعدها في الشرب، قال: فإني لا أذوقها أبداً.

ودخل ابن أبي محجن على معاوية فقال له: أبوك الذي يقول؟

إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرمةٍ ... تروّي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفننّي في الفلاة فإنني ... أخاف إذا ما متّ ألاّ أذوقها

فقال: يا أمير المؤمنين؛ لو شئت لذكرت من شعره ما هو أحسن من هذا وأنشد:

لا تسألي القوم عن مالي وكثرته ... وسائلي القوم عن بأسي وعن خلقي

القوم أعلم أني من سراتهم ... إذا تطيش يد الرّعديدة الفرق

أُعطى السنان غداة الروع حصّته ... وعامل الرمح أرويه من العلق

وأطعن الطعنة النّجلاء عن عرضٍ ... وأكتم السرّ فيه ضربة العنق

فقال: لئن كنا أسأنا المقال، لا نسيء الفعال؛ وأمر له بصلة.

[الحجاج يضحك في جنازة رجل من أهل الشام]

وقال ابن عائشة: مات رجل من أهل الشام، فحضر الحجاج جنازته، وكان عظيم القدر، وله عز وجاه؛ فصلى عليه وجلس على شفير قبره، وقال: لينزل قبره بعض إخوانه، فنزل نفر منهم، فقال أحدهم وهو يسوي التراب عليه: رحمك الله يا أبا فلان؛ فإن كنت ما علمت لتجيد الغناء، وتسرع رد الكأس، ولقد وقعت بموضع سوء لا تخرج منه إلا يوم الدكة.

قال: فما تمالك الحجاج أن ضحك، وكان لا يضحك في جد ولا في هزل، ثم قال للرجل: هذا موضع هذا الأمر. ويلك؟ قال: أصلح الله الأمير، فرسي حبيس في سبيل الله لو سمعه الأمير يتغنى:

يا لبينى أوقدي النارا ... إنّ من تهوين قد جارا

ربّ نارٍ بتّ أرمقها ... تقضم الهنديّ والغارا

عندها ظبيٌ يؤججها ... عاقدٌ في الخصر زنّارا

وكان الميت يسمى سعنة. فقال: أخرجوه من القبر يا أهل الشام، ما أبين حجة أهل العراق في جهلكم! وكان الميت أقبح خلق الله وجهاً، فلم يبق أحد ممن حضر إلا استغرق ضحكاً.

أهل الشام

<<  <   >  >>