للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فلحقه عبد الرحمن بن عوف فاستأذن عليه، فقيل: عبد الرحمن يا أمير المؤمنين بالباب. فلما دخل عليه، قال: ما صوت سمعته منك آنفاً يا أمير المؤمنين؟ فقال: يا أبا محمد، إيهاً عنك! فإن الناس إن أخلوا قالوا.

وقد قلت:

فرّقت في التأليف معتمداً ... ما كان لو قد شئت يأتلف

والعقد ما اختلفت جواهره ... إلاّ ليشرق حين يختلف

إن كان الشيء مع نظيره يذهب بنوره، ويغض من بهائه؛ ويخلق من روائه؛ فقد زعموا أن المجرة كواكب مضيئة مجتمعة؛ فكسف بعضها نور بعض؛ فصارت طريقاً في السماء بيضاء. وقال ابن الرومي:

وبيضاء يخبو درّها من بياضها ... ويذكو بها ياقوتها والزبرجد

إلا أن تندرج الحكاية في الحكايات، ويتسلسل البيت مع الأبيات، فيكون الجمع أزين من القطع، والتوصيل أحسن من التفصيل، فأقرنها بأشكالها، وأجملها مع أمثالها.

[لاختيار المطايبات والمداعبات أصول]

ولاختيار المطايبات والمداعبات وما انخرط في سلكها من الملح والمزح أصول لا يخرج فيها عنها، وفصول لا يخرج بها منها، وقد يستندر الحار المنضج، والبارد المثلج؛ لأن إفراط البرد، يعود به إلى الضد. ولذلك قول أبو نواس:

قل للزّهيريّ إن حدا وشدا ... أقلل وأكثر فأنت مهذار

سخنت من شدة البرودة ح ... تى صرت عندي كأنك النار

لا يعجب السامعون من صفتي ... كذلك الثلج باردٌ حار

وفي كليلة ودمنة: لا ينبغي اللجاج في إسقاط ذي الهمة والرأي وإزالته؛ فإنه إما شرس الطبيعة كالحية إن وطئت فلم تلسع لم يغتر بها فيعاد لوطئها، وإما سبح الطبع كالصندل البارد، إن أفرط في حكه عاد حاراً مؤذياً.

وقالوا: إنما ملح القرد عند الناس لإفراط قبحه. وقد قال ابن الرومي في الخصيان:

معشراً أشبهوا القرود ولكن ... خالفوها في خفّة الأرواح

لأن العبد إذا خصي استرخت معاقد عصبه، وحدث في طبعه نشاط في الخدمة؛ فيحصل بين حالين لا يطيق المبالغة فيهما فيضيق صدره، وتثقل روحه. وقد قال أبو تمام:

أمن عمىً نزل الناس الربى فنجوا ... وأنتم نصب سيل القنّة العرم

أم ذاك من هممٍ جاشت وكم صفة ... حدا إليها غلوّ القوم في الهمم

وكان يقال: من التوقي ترك الإفراط في التوقي، وإنما الموت المحبب والسقم المغيب، أن تقع النادرة فاترة فتخرج عن رتبة الهزل والجد، ودرجة الحر والبرد، فيكون بها جهد الكرب على القلب؛ كما قال أبو بكر الخوارزمي: أثقل من عذاب الفراق، وكتاب الطلاق، وموت الحبيب، وطلعة الرقيب، وقدح اللبلاب في كف المريض، ونظرة الذل إلى البغيض، وأشد من خراج بلا غلة، ودواء بلا علة، وطلعة الموت في عين الكافر، وقد ختم عمره في الكبائر، وأعظم من ليلة المسافر، في عين كانون الآخر، على إكاف يابس، تحت مطر وبرد قارس.

ومن أمثال البغداديين: هو أثقل من مغن وسط، ومن مضحك وسط. وقال ابن الرومي يهجو أحمد بن طيفور:

فقدتك يا بن أبي طافر ... وأطعمت فقدك من شاعر

فلت بسخن ولا بارد ... وما بين ذين سوى الفاتر

وأنت كذاك تغثّي النفو ... س بغثية الفاتر الخاثر

[شرط المسامر والمنادر]

ومن شرط المسامر والمنادر أن يكون خفيف الإشارة، لطيف العبارة، ظريفاً رشيقاً، لبقاً رفيقاً، غير فدم ولا ثقيل، ولا عنيف ولا جهول؛ قد لبس لكل حالة لباسها، وركب لكل آلة أفراسها، فطبق المفاصل، وأصاب الشواكل، وكان برائق حلاوته، وفائق طلاوته، يضع الهناء مواضع النقب، ويعرف كيف يخرج مما يدخل فيه، إذا خاف ألا يتسحسن ما يأتيه.

كما ذكر عن الفتح بن خاقان أنه كان مع المتوكل فرمى المتوكل عصفوراً فأخطأه. فقال: أحسنت يا أمير المؤمنين! فنظر إليه نظرة منكرة. فقال: إلى الطائر حتى سلم؛ فضحك المتوكل.

وذكر لبعض ولاة البصرة لما وليها حلاوة الجماز، وأن أكثر نوادره على الطعام، فأحضره، وقدمت المائدة، فأتى بنادرة فاخرة وأتبعها بأخرى فلم تستملح. فقال: لعل الأمير أنكر برد ما أتيت به؟ وإنما احتذيت حذوه في تقديم البوارد قبل الحوار.

كلما طال كلامه انحل نظامه

<<  <   >  >>