للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فجلسا يأكلان والمخذول يطحن، ثم وضعا نبيذاً وجعلا يشربان، والزوج يقول ساعةً بعد ساعة: هاتي العصا لكي أقوم لهذا الحمار الملعون، فإني أراه كسلان؛ ونحن نحتاج إلى الدقيق كثيراً، فتقوم الجارية فتقول له: الله الله في نفسك! لا تفتر؛ فإني أخاف أن يقوم فيراك.

فلم يزل يطحن دائباً والرجل يشرب مع امرأته إلى أن طلع الفجر، فقام الرجل فتهيأ للصلاة وخرج إلى المسجد، فحلت المغرور وقالت: طر إلى بيتك لئلا يراك إنسان فتفتضح.

فخرج يعدو على وجهه عريان ويده على سوءته، فدخل إلى منزله وبقي مسبوتاً مطروحاً على وجهه لا يحرك عضواً.

فلما كان بعد مدة قالت المرأة لزوجها: قد بقي علينا شيء من الولع بالمخذول. قال: شأنك. فبعثت إليه وقال: مولاتي تقرئك السلام وتقول لك: الله يعلم ما تداخل قلبي مما نزل بك؛ ولوددت أن أقيك بنفسي، ولكن المقادير تنزل من السماء، وإني إليك لمشتاقة، فأحب أن تصير إلينا، فإن زوجي قد خرج إلى موضع له فيه مقام شهر، فنستأنس جميعاً ونسترجع ما فاتنا؛ فالتفت إليها سريعاً، وقال: عسى قد فرغ دقيقكم؟.

[بشار وخال المهدي]

ودخل بشار على المهدي ينشد شعراً وعنده خاله يزيد بن منصور الحميري وكان مغفلاً؛ فقال: ما صناعتك أيها الشيخ؟ قال: أنظم اللؤلؤ. فقال المهدي: أتهزأ بخالي؟ وما أقول لمن يرى شيخاً أعمى ينشد شعراً فيسأله عن صناعته!

[بشار وجواري المهدي]

وقالت جواري المهدي له: إن بشاراً لأطيب الناس مفاكهةً، وهو ضرير البصر، ولا غيرة بك علينا معه إذ لا يرانا، فلو أدخلته إلينا؟ ففعل. فبادرنه وطايبنه وقلن: إنك أبونا. فقال: ونحن على دين كسرى؛ فبلغ ذلك المهدي فمنعه فيما بعد من الدخول عليهن.

أخذه المتنبي فقال:

يا أُخت معتنق الفوارس في الوغى ... لأخوك ثم أرقّ منك وأرحم

يرنو إليك مع العفاف وعنده ... إنّ المجوس تصيب فيما تحكم

[بشار أحد الأعاجيب]

وبشار بن برد، أحد الأعاجيب، خلق أكمه، وهو يشبه التشابيه التي لم يسبق إليها، مما لا يدركه البصير، وهو أول من فتق البديع للمحدثين. وقتله المهدي سنة سبع وستين ومائة.

[سبب قتله]

وكان سبب قتله أن المهدي قدم البصرة، فأعطى الشعراء ولم يعط بشاراً شيئاً، فأتى بشار إلى مجلس يونس النحوي، فقال: أههنا أحد يحتشم منه؟ قالوا: لا! فأنشده:

فليت ما أنفقت في مصرنا ... كان جميعاً في حر الخيزران

فبلغ ذلك يعقوب بن داود مع ما بلغه من هجائه إياه؛ فدخل على المهدي، فقال له: يا أمير المؤمنين، قد بلغ من هذا الأعمى المشرك أن يهجو أمير المؤمنين؟ قال: ويحك! وما قال؟ قال: تعفيني يا أمير المؤمنين من إنشاد ذلك. فأبى عليه فأنشده ما قال؛ فوجه في حمله؛ فخاف يعقوب أن يقدم على المهدي فيمدحه فيعفو عنه، فوجه إليه من لقيه في البطيحة فضربه بالسياط حتى مات، وجعل يقول: ويلك! أزعجتني؛ أما علت أني شاعر وليي العهد موسى وهارون. فقال له: يا زنديق، تضرب ولا تقول بسم الله! قال: ويلك، أثريد هو فأسمي الله عليه.

قال: فأرسل المهدي إلى منزل بشار من يفتشه وهو يقول: لعلنا نجد شيئاً تقام به الحجة. قال: فوجد صندوقاً مقفلاً بقفل وثيق؛ فظنوا أن فيه بعض ما اتهم به، فإذا فيه طومار مكتوب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم. أردت هجاء آل سليمان بن علي لإساءتهم إلي، وطلبهم لي، ثم ذكرت قرابتهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فتركتهم لله ولرسوله؛ ولكني قد قلت وأنا أستغفر الله تعالى:

دينار آل سليمانٍ ودرهمهم ... كالبابليّين حفّا بالعفاريت

لا يبصران ولا يرجى لقاؤهما ... كما سمعت بهاروتٍ وماروت

[من جيد شعر بشار]

ومن جيد شعره قوله:

أمن تجنّي حبيبٍ بات غضبانا ... أصبحت من سكرات الموت نشوانا

يا قوم أُذني لبعض الحيّ عاشقةٌ ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا

قالوا بمن لا ترى تهوى فقلت لهم ... الأذن كالعين توفي القلب ما كانا

يا ليتني كنت تفّاحاً براحتها ... أو كنت من قضب الريحان ريحانا

حتى إذا استنشقت ريحي وأعجبها ... ونحن في خلوةٍ حوّلت إنسانا

<<  <   >  >>