للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فمن ظريف ما لأبي بكر من رسالة طويلة يهزأ بها بالبديع: تواضع لنا رحمك الله، فإن التواضع خلق من أخلاق السلف، وشبكة من شباك الشرف، وتصدق علينا ببشرك، فإن الله يجزي المتصدقين، وأحسن فإن الله يحب المحسنين، ولاين إخوانك في قولك وفعلك، ولو كنت فظاً غليط القلب لانفضوا من حولك. ولولا أني رحمك الله لا أقول بالرجعة، ولا أذهب مذهب التناسخية، لظننت أنك يونس بن فروة إذ قيل فيه:

أمّا ابن فروة يونس فكأنه ... من كبره ذاك الحمار القائم

ما الناس عندك غير نفسك وحدها ... والناس عندك ما عداك بهائم

فلقد أعجبت بنفسك الخسيسة التي لا تستحق العجب، وأحببت ما لا يساوي الحب، حتى كأن كسرى أنو شروان حامل غاشيتك، وكأن قارون وكيل نفقتك، وحتى كأنك بنيت منارة الإسكندرية من آجر دارك، وشدت ملعب سليمان من بقايا رخام صحنك؛ وكأن خاتم الدنيا في خصرك، وحساب خرجها ودخلها في بنصرك، وحتى كأن الشمس تطلع من جبينك، والغمام يندى من يمينك، وكأن كسرى أنو شروان صاحب نفقة إصطبل دوابك، ونمرود بن كنعان قهرمانك على ولدك وأهلك، وحتى كأن الكبريت الأحمر خزف دارك، والدرة اليتيمة في أخس سوارك.

رحمك الله! دع لليونانية من الحكمة ما ينفق به سوقهم، واترك لبني العباس من التملك ما تمشي به أمورهم، وأبق للشمس والقمر من الحسن بمقدار ما يلوحان به، ويطلعان فيه؛ وانظر إلى النساء من وراء حجاب، ومن خلف برقع، وإلا خرجن في عشقك من ستر الله، وقطعن أيديهن وقلن حاشا لله، ولا تحمل الحرائر على خشونة الطلاق، ولا تذق المماليك مرارة العناق.

رحمك الله! لي حوائج إن قضيتها فقد تسلفت شكري وثنائي، وإن رددتني عنها فقد رأيت أنموذج سخطي وشكواي، قد اتفق الناس على ضياع النسخة الأولى من كتاب العين فأملها علينا رحمك الله! والكيمياء فقد أنفقت فيها الأموال، وتعب فيها الرجال، ثم لم يحصوا منها إلا على مواعيد مزخرفة، وأماني مسوفة، فما عليك لو علمتناها، وأغنيت الفقراء، وزدت الأغنياء، وأرحت الناس من الضرب في البلاد، ومن الكد والاجتهاد، ومن أن يخدم فقير غنياً، ويتخذ بعضهم بعضاً سخرياً.

والزيج الأكبر فقد انقطع أصله، ومات أهله، وهو من مفاخر الروم علينا، ومن محاسنهم دوننا. فاعمل على إصلاحه، ولا تدع النصارى يفضلون المسلمين في إبداعه. ومسجد دمشق فهو حسنة يباهي أهل المغرب أهل المشرق، فابن لنا مثله، ولا تثبت علينا فضله؛ فإنما هي ساعة من هندستك، وجزء نستعمله من أجزاء حكمتك.

أنا لو سلمت أنك إنسان لنفيت عن نفسي الإنسانية، وقضيت عليها بالبهيمية، وصرت أعلى منك في النقص حكمة، وفي الجهل طبقة. وإذا أردت أن تعلم أني في ذمك جاد، وفي مدحك لاعب، وفي الشهادة عليك صادق، وفي الشهادة لك كاذب، فانظر إلى تهافت كلامي إذا لاينتك وجاملتك، وإصابتي الغرض وحزي المفصل إذا كاشفتك وباينتك، وذلك أن الصادق معان مأخوذ بيديه، والكاذب مخذول مغضوب عليه، وما كان الله ليوفقني وأنا أجامل من لا يعرف قط إجمالاً ولا تجميلاً، وأفضل من لم يناسب مذ كان إفضالاً ولا تفضيلاً.

وليس يخفى عليك أكرمك الله تطاول أهل العراق بعبد الله بن هلال الهجري صديق إبليس؛ فأرنا رحمك الله من عجائب صنعتك، ولطائف شعبذتك، وأظهر من كتبك ما تحاكي به كتب اليونانية، وتكسد شعرهم وتهدم فخرهم؛ فإن إبليس تلميذ لك، تعلم منك وأخذ عنك؛ وشتان بين من يدعي أن إبليس من أعوانه، وبين من يدعي أنه من غلمانه. وهل استنظر إبليس إلى يوم الوقت المعلوم إلا ليدرك زمانك، ويرى برهانك، أي وفقدك فلا شيء أعز علي منه! ولا أحسن في عني، أما سمعت قول علي بن جبلة في أبي دلف:

إنما الدّنيا أبو دلفٍ ... بين بادية ومحتضره

فإذا ولّى أبو دلفٍ ... ولّت الدّنيا على أثره

إلا غضبت عليه، واعتقدت أنه أخذ صفتك، وأعار أبا دلف مدحتك، ولا سمعت قوله:

إما الدّنيا حميدٌ ... وعطاياه الجسام

فإذا ولّى حميدٌ ... فعلى الدنيا السلام

إلا تمنيت لو عرفت قبره فرجمته، أو عرفت بيته فهدمته، ولا سمعت قول ليلى الأخيلية:

فتى كان أحيى من فتاة حيّية ... وأشجع من ليث بخفّان خادر

<<  <   >  >>