للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

فقال المأمون لما بلغه ذلك: والله لئن أدركته لأحسنن إليه، فمات قبل دخول المأمون بغداد.

ولما دخل بها سنة أربع ومائتين وأتاه الشعراء يمدحونه قال: ما فعل أبو علي الحسن بن هانىء؟ قالوا: توفي، فلم يسمع منهم شعراً وتوجع وقال: لقد ذهب ظرف الزمان بموته، وانحطت رتبة الشعر بذهابه.

وكان أبو نواس في آخر أيام الأمين مستخفياً فلم يظهر حتى قتل؛ لأنه كان أملح الناس وجهاً، وكان أبو نواس إذا نظر إليه بقي باهتاً فقال فيه:

عذّب قلبي ولا أقول بمن ... أخاف من لا يخاف من أحد

إذا تفكّرت في هواي له ... مسست رأسي هل طار عن جسدي

إني على ما ذكرت من فرقي ... لآمل أن أناله بيدي

وقال:

يا قاتل الرجل البريّ ... وسالباً عزّ المليك

كيف السبيل للثم سا ... لفتيك أو تقبيل فيك

الله يعلم أنني ... أهوى هواك وأشتهيك

وأصدّ عنك حذار أن ... تقع الظنون عليّ فيك

فظهر الشعر، فلم يزل أبو نواس مستخفياً.

وحبسه الأمين قبل ذلك: وذلك لأن المأمون لما خلعه بخراسان ووجه طاهر بن الحسين إليه ليحاربه، كان يعمل بعيوب الأمين كتباً لتقرأ على المنابر بخراسان، وكان مما عابه به أنه قال: احتبس شاعراً ماجناً كافراً يقال له الحسن بن هانىء، واستخلصه معه لشرب الخمر وارتكاب المآثم وانتهاك المحارم، وهو القائل:

ألا فاسقني خمراً وقل لي هي الخمر ... ولا تسقني سرّاً إذا أمكن الجهر

وبح باسم من أهوى ودعني من الكنى ... فلا خير في اللذّات من دونها ستر

قال أبو علي محمد بن المظفر الحاتمي: هذا معنى ظريف، يقول: إن الملاذ بالحواس الخمس وهي: النظر والسماع والشم والذوق واللمس؛ فقد استمتعت حاسة البصر بالنظر إليها، وحاسة الشم بتضوعها وطيب نكهتها، وحاسة الذوق بطعمها، وحاسة اللمس بلين اللمس، وبقي حاسة السمع معطلة. فقال: وقل لي هي الخمر؛ لتلتذ حاسة السماع فيكمل الاستمتاع.

ثم يذكر الأمين في خطبة العراق، فيقول: أهل فسق وخمور وفجور وماخور، ويقوم رجل بين يديه فينشد أعابيس أبي نواس كقوله:

يا أحمد المرتجى في كل نائبةٍ ... قم سيدي نعص جبّار السموات

فقام والليل يجلوه النهار كما ... يجلي التبسّم عن غرّ الثنيّات

ومن هنا أخذ ابن الرومي، فجاء بأبدع عبارة، وأنصع استعارة، وأصح تشبيه، وأملح تنبيه. فقال يصف سوداء:

يفترّ ذاك السواد عن يققٍ ... من ثغرها كاللآلىء اليقق

كأنّها والمزاح يضحكها ... ليلٌ تعرّى دجاه عن فلق

فاتصل بالأمين خبر المأمون، فأغراه الفضل بن الربيع بأبي نواس فحبسه، فكتب أبو نواس إلى الفضل من الحبس:

أنت يابن الربيع علّمتني الخي ... ر وعوّدتنيه والخير عاده

فارعوى باطلي وعاودني حل ... مي وأحدثت رغبةً وزهاده

لو تراني شبهتني الحسن البص ... ريّ في حال نسكه أو قتاده

المسابيح في ذراعي والمص ... حف في لبّي مكان القلاده

فإذا شئت أن ترى طرفةً تع ... جب منها مليحةً مستفاده

فادع بي لا عدمت تقويم مثلي ... فتأمّل بعينك السّجّاده

ترى أثراً من الصلاة بوجهي ... توقن النفس أنّها من عباده

لو رآها بعض الرائين يوماً ... لاشتراها يعدّها للشهاده

ولقد طالما شقيت ولكن ... أدركتني على يديك السعاده

فلما بلغ الشعر الفضل ضحك، وقال: من علم أن السجادة تصلح للشهادة بعد؛ وكلم فيه الأمين فتركه بعد أن أخذ عليه ألا يشرب الخمر فقال:

ما من يدٍ في الناس واجدةٍ ... كيدي أبي العباس مولاها

نام الثقات على مضاجعهم ... وسرى إلى نفسي فأحياها

قد كنت خفتك ثم أمّنني ... من أن أخافك خوفك الله

فعفوت عنّي عفو مقتدرٍ ... وجبت له نقمٌ فألفاها

ومن قوله في ترك الشرب:

أيّها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلاّ شميما

<<  <   >  >>