للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"والسبب في ذلك أنهم أمة وحشية باستحكام عوائد التوحش وأسبابه فيهم، فصار لهم خلقا وجبلة وكان عندهم ملذودًا، لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم، وعدم الانقياد للسياسة، وهذه الطبيعة منافيه للعمران، ومناقضة له، فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومنافٍ له، فالحجر مثلا إنما حاجتهم إليه لنصبه أثاقي١ للقدر فينقلونه من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك، والخشب أيضًا إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم، ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربوا السقف عليه لذلك، فصارت طبيعة وجودهم منافية للبناء الذي هو أصل العمران.

هذا في حالهم على العموم، وأيضًا، فطبيعتهم انتهاب ما في أيدي الناس وأن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حد ينتهون إليه بل كلما امتدت أعينهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا ما تم اقتدارهم على ذلك بالتغلب والملك بطلت السياسة في حفظ أموال الناس وخرب العمران. وأيضًا، فلأنهم يتلفون على أهل الأعمال من الصنائع والحرف أعمالهم. لا يرون لها قيمة ولا قسطًا من الأجر والثمن.

والأعمال -كما سنذكره- هي المكاسب وحقيقتها وإذا فسدت الأعمال وصارت مجانًا ضعفت الآمال في المكاسب وانقبضت الأيدي عن العمل وابذعر السكان٢. وفسد العمران وأيضًا فإنهم ليست لهم عناية بالأحكام وزجر الناس عن المفاسد ودفاع بعضهم عن بعض. إنما همهم ما يأخذونه من أموال الناس نهبًا أو مغرمًا فإذا توصلوا إلى ذلك وحصلوا عليه أعرضوا عما بعده من تسديد أموالهم والنظر في مصالحهم وقهر بعضهم عن أغراض المفاسد وزجر المعترض لها بل يكون


١ جمع أثقية: حجر يوضع عليه القدر لطهي الطعام.
٢ تفرقوا.

<<  <   >  >>