للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

"ولما وقفتْ بنا الركاب في ساحة الأهرام، وقفنا هناك موقف الإجلال والإعظام، قبالة ذلك العَلم الذي يطاول الروابي والأعلام، والهضِبة التي تعلو الهضاب والآكام والبِنية التي تشرف رَضْوى وشمام، وتُبلى ببقائها جدة الليالي والأيام، وتطوى تحت ظلالها أقوامًا بعد أقوام، وتفنى بدوامها أعمار السنين والأعوام، خَلِقت ثيابُ الدهر وهي لا تزال في ثوبها القشيب، وشابت القرون وأخطأ قرنها وخط المشيب، ما برحت ثابتة تناطح مواقع النجوم، وتسخر بثواقب الشهب والرجوم"١.

موضوع النصين واحد، هو وصف الأهرام إلا أننا رأينا في عبارات القطعة الثانية خواص لا نجدها في عبارات الأولى سواء في هذه الكلمات الجزلة الفخمة البريئة من المصطلحات العلمية، والتحديد الدقيق، وفي هذه الجمل المختارة القوية المسجوعة، وهذه الصور المتتابعة تشابيه واستعارات فالهرم مرة جبل، وأخرى حرب الدهر، وثالثة فتاة شابة خالدة الشباب.. وأخيرًا هذه الموسيقى العامة الفخمة التي هي في الحقيقة صوت هذا الانفعال النفسي الذي ملك على الكاتب شعوره الباطني ففاض على قلمه ألفاظًا وعبارات. هذا الإعجاب هو -هنا- ما منح الأسلوب صفته الأدبية، وأيدي شخصية الكَاتب في هذا الموقف فإذا بها تُكبِرُ الأهرام، تعجب بقوة الإنسان، ثم تدل على درس للأدب القديم واعتزاز بهذه الصنعة اللفظية والجزالة اللغوية والصور البيانية القديمة. وهذا الإعجاب -باعتباره انفعالا- تعجز اللغة العادية عن تصويره؛ لأنها وضعت بأزاء الأفكار لتعبر عن هذا الفعل الهادئ المحدود، أما الانفعال فهو قوة تعوزه لغة خاصة به وهي التي يحتال لها الأديب فيؤلفها -مستعيًنا بالخيال- من


١ حديث عيسى بن هشام: ص٤٠٥ طبعة ثانية.

<<  <   >  >>