للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أي: إنْ لم تحبُ أوديتُ، فجعل "أوديت" المقدَّم دلالة على أوديت المؤخر؛ فكما جاز أن يجعل فعلتُ دليلا على جواب الشرط المحذوف فكذلك يجوز أن يُجْعَلَ نفيُهَا الذي هو لم أفعل دليلًا على جوابه؛ لأنهم قد يحملون الشيء على ضده كما يحملونه على نظيره، ألا ترى أنهم قالوا "امرأةٌ عدوَّةٌ" كما قالوا: "صديقة" وقالوا: "مِلْحَفَةٌ جديدةٌ" كما قالوا "عتيقةٌ" وقالوا: "جوعان" كما قالوا: "شبعان" وقالوا: "علم" كما قالوا: "جهل" ولهذا قال الكسائي في قول الشاعر:

[٤٠٥]

إذا رَضِيَتْ عليَّ بنو قشيرٍ ... لَعَمْرُ اللهِ أعجبني رِضَاهَا


عن جواب الشرط، وجعلوه دليلًا عليه في قوله:
يا حكم الوارث عن عبد الملك ... أوديت إن لم تحب حبو المعتنك
أي إن لم تحب أوديت، فجعل أوديت المتقدم دليلًا على أوديت هذه المتأخرة، فكما جاز أن تجعل فعلت دليلًا على جواب الشرط المحذوف كذلك جعل نفيها الذي هو لم أفعل دليلًا على جوابه" ا. هـ. والنحاة يستشهدون بهذين البيتين في مسألتين أخريين، أما أولاهما: ففي قوله "يا حكم الوراث" فإن قوله "الوارث" نعت للمنادى قبله، وهذا النعت مقترن بأل، ونعت المنادى المفرد إذا كان مقترنًا بأل يجوز رفعه تبعًا للفظ المنادى ونصبه تبعًا لمحله، فإن المنادى المفرد العلم مبني على الضم في محل نصب، وأما الثانية: ففي قوله "أوديت" فإن هذا الفعل ماضٍ في اللفظ، ولكنه مستقبل في المعنى، أي إني أودي وأهلك إن لم تتداركني، واستعمل الماضي مكان المستقبل تحققًا لوقوعه وثقة منه بأنه كائن لا محالة؛ فكأنه يقول: إن الجود منكم واقع متى أريد وواجب متى طلب.
[٤٠٥] هذا البيت من كلام القحيف العقيلي يمدح حكيم بن المسيب القشيري، وهو من شواهد ابن هشام في مغني اللبيب "رقم ٢٢٥" وفي أوضح المسالك "رقم ٢٩٨" والأشموني "رقم ٥٥٣" وابن الناظم في باب حروف الجر من شرح الألفية؛ وشرحه العيني "٣/ ٢٨٢ بهامش الخزانة" ورضي الدين في باب حروف الجر من شرح الكافية؛ وشرحه البغدادي "٤/ ٢٤٧" وابن جني في الخصائص "٢/ ٣١١ و٣٨٩" وأبي زيد في نوادره "ص١٧٦" وقشير -بزنة التصغير- هو قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقوله "لعمر الله" أراد الحلف بإقراره لله تعالى بالخلود والبقاء بعد فناء الخلق، وقال قالوا: عمرك الله، وعمري الله؛ بنصب عمر على حذف حرف القسم؛ وبنصب لفظ الجلالة على التعظيم، وعمر: مصدر أضيف لفاعله الذي هو ياء المتكلم أو كاف المخاطب، ويجوز رفع العمر على أنه مبتدأ حذف خبره وجوبا: أي لعمرك الله قسمي. ومحل الاستشهاد في هذا البيت قوله "رضيت علي" حيث عدَّي رضي بعليّ؛ والأصل في هذا الفعل أن يتعدّى بعن كما في قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: ١١٩] وللعلماء في ذلك ثلاثة تخرجيات.
الأول: أن الشاعر وضع "على" موضع عن، وزعم من ذهب إلى هذا أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض؛ ومن أمثلة ذلك قول دوسر بن غسان اليربوعي:
إذا ما امرؤ ولى علي بودّه ... وأدبر لم يصدر بإدباره ودّي

<<  <  ج: ص:  >  >>